مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٦٣
الأعوان والإخوان، وأما قوله تعالى : يُرْسَلُ عَلَيْكُما فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار، فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل اللّه ولا يخرج أحد من الأقطار أصلا، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال : لا فرار لكم قبل الوقوع، ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام والجواب الثاني : من حيث اللفظ، هو أن الخطاب مع المعشر فقوله : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أيها المعشر وقوله : يُرْسَلُ عَلَيْكُما ليس خطابا مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكورا بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما وهذا يتأيد بقوله تعالى :
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن : ٣١] وحيث صرح بالنداء جمع الضمير، وقال بعد ذلك : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما حيث لم يصرح بالنداء.
المسألة الثالثة : ما الشواظ وما النحاس؟ نقول : الشواظ لهب النار وهو لسانه، وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب، والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد، وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار، وأما النحاس ففيه وجهان، أحدهما الدخان، والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا، ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد. وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره، والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضا. فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة، والجن خفاف والنحاس ثقيل، وكذلك إن قلنا : المراد من النحاس الدخان، ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح.
المسألة الرابعة : من قرأ نُحاسٌ بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس؟ نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : تقديره شيء من نحاس كقولهم :
تقلدت سيفا ورمحا وثانيهما : وهو الأظهر أن يقول : الشواظ لم يكن إلا عند ما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية، وهو الدخان، فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان، وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب، فإن قيل : على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان، نقول : العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى، لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور، فلا يكون لها لهيب وهيبة، وقوله تعالى : فَلا تَنْتَصِرانِ نفي لجميع أنواع الانتصار، فلا ينتصر أحدهما بالآخر، ولا هما بغيرهما، وإن كان الكفار يقولون في الدنيا : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر : ٤٤] والانتصار التلبس بالنصرة، يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها، ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان، والذي يقال فيه : إن الانتصار بمعنى الامتناع : فَلا تَنْتَصِرانِ بمعنى لا تمتنعان، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبسا بالنصرة فهو ممتنع لذلك. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٧ إلى ٣٨]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨)


الصفحة التالية
Icon