مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٦٨
إلى غير ذلك، فلما كان ما ذكر هو المقصود بالأخذ عدى الفعل إليه من غير حرف، وقال تعالى : تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
وقال تعالى : فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ويقال : خذ بيدي وأخذ اللّه بيدك إلى غير ذلك مما يكون المقصود بالأخذ غير ما ذكرنا، فإن قيل : ما الفائدة في توجيه الفعل إلى غير ما توجه إليه الفعل الأول، ولم قال : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي؟ نقول فيه بيان نكالهم وسوء حالهم ونبين هذا بتقديم مثال وهو أن القائل إذا قال ضرب زيد فقتل عمرو فإن المفعول في باب ما لم يسم فاعله قائم مقام الفاعل ومشبه به ولهذا أعرب إعرابه فلو لم يوجه يؤخذ إلى غير ما وجه إليه يعرف لكان الأخذ فعل من عرف فيكون كأنه قال : يعرف المجرمين عارف فيأخذهم ذلك العارف، لكن المجرم يعرفه بسيماه كل أحد، ولا يأخذه كل من عرفه بسيماه، بل يمكن أن يقال قوله : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ المراد يعرفهم الناس والملائكة الذين يحتاجون في معرفتهم إلى علامة، أما كتبة الأعمال والملائكة الغلاظ الشداد فيعرفونهم كما يعرفون أنفسهم من غير احتياج إلى علامة، وبالجملة فقوله : يعرف معناه يكونون معروفين عند كل أحد فلو قال : يؤخذون يكون كأنه قال : فيكونون مأخوذين لكل أحد، كذلك إذا تأملت في قول القائل : شغلت فضرب زيد علمت عند توجه التعليق إلى مفعولين دليل تغاير الشاغل والضارب لأنه يفهم منه أني شغلني شاغل فضرب زيدا ضارب، فالضارب غير ذلك الشاغل، وإذا قلت : شغل زيد فضرب لا يدل على ذلك حيث توجه إلى مفعول واحد، وإن كان يدل فلا يظهر مثل ما يظهر عند توجهه إلى مفعولين، أما بيان النكال فلأنه لما قال :
فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي بين كيفية الأخذ وجعلها مقصود الكلام، ولو قال : فيؤخذون لكان الكلام يتم عنده ويكون قوله : بِالنَّواصِي فائدة جاءت بعد تمام الكلام فلا يكون هو المقصود، وأما إذا قال : فيؤخذ، فلا بد له من أمر يتعلق به فينتظر السامع وجود ذلك، فإذا قال : بِالنَّواصِي يكون هذا هو المقصود، وفي كيفية الأخذ ظهور نكالهم لأن في نفس الأخذ بالناصية إذلالا وإهانة، وكذلك الأخذ بالقدم، لا يقال قد ذكرت أن التعدية بالباء إنما تكون حيث لا يكون المأخوذ مقصودا والآن ذكرت أن الأخذ بالنواصي هو المقصود لأنا نقول : لا تنافي بينهما فإن الأخذ بالنواصي مقصود الكلام والناصية ما أخذت لنفس كونها / ناصية وإنما أخذت ليصير صاحبها مأخوذا، وفرق بين مقصود الكلام وبين الأخذ، وقوله تعالى : فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فيه وجهان أحدهما : يجمع بين ناصيتهم وقدمهم، وعلى هذا ففيه قولان : أحدهما : أن ذلك قد يكون من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم من جانب الظهر فتخرج صدورهم نتأ والثاني : أن ذلك من جانب وجوههم فتكون رءوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة الوجه الثاني : أنهم يسحبون سحبا فبعضهم يؤخذ بناصيته وبعضهم يجر برجله، والأول أصح وأوضح. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : آية ٤٣]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣)
والمشهور أن هاهنا إضمارا تقديره يقال لهم : هذه جهنم، وقد تقدم مثله في مواضع. ويحتمل أن يقال :
معناه هذه صفة جهنم فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ويكون ما تقدم هو المشار إليه، والأقوى أن يقال :
الكلام عند النواصي والأقدام قد تم، وقوله : هذِهِ جَهَنَّمُ لقربها كما يقال هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه، فكأنه قال جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، ويلائمه قوله : يُكَذِّبُ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال، لقال تعالى لهم : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون لأن في هذا الوقت لا يبقى مكذب،


الصفحة التالية
Icon