مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٧٠
في موسى، وقال : لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت : ٣٣] وقال : فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء : ١٤] وقال إني : خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم : ٥] ويدل عليه تقاليب خ وف فإن قولك خفي قريب منه، والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضا، وإذا علم هذا فاللّه تعالى مخوف ومخشي، والعبد من اللّه خائف وخاش، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف، وإذا نظر إلى حضرة اللّه رآها في غاية العظمة فهو خاش، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف، فلهذا قال : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ جعله منحصرا فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه، وقدروا أن اللّه رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته، بل تزداد خشيتهم، وإما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه، فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك، فلذلك قال تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي؟ الثالثة :
لماذكر الخوف ذكر المقام، وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ وقال : لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقال عليه السلام :«خشية اللّه رأس كل حكمة»
لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه. وفي مقام ربه قولان : أحدهما : مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه، وهو مقام عبادته كما يقال : هذا معبد اللّه وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد اللّه العبد فيه والثاني : مقام ربه الموضع الذي فيه اللّه قائم على عباده من قوله تعالى :/ أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد : ٣٣] أي حافظ ومطلع أخذا من القائم على الشيء حقيقة الحافظ له فلا يغيب عنه، وقيل : مقام مقحم يقال : فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلانا وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي، لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي اللّه فالخاشي لو قيل له : افعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم والخائف ربما كان يقدم على ملاذ نفسه لو رفع عنه القلم وكيف لا، ويقال : خاصة اللّه من خشية اللّه في شغل شاغل عن الأكل والشرب واقفون بين يدي اللّه سابحون في مطالعة جماله غائصون في بحار جلاله، وعلى الوجه الثاني قرب الخائف من الخاشي وبينهما فرق الرابعة : في قوله : جَنَّتانِ وهذه اللطيفة نبينها بعد ما نذكر ما قيل في التثنية، قال بعضهم : المراد جنة واحدة كما قيل في قوله : أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق : ٢٤] وتمسك بقول القائل :
ومهمهين سرت مرتين قطعته بالسهم لا السهمين
فقال : أراد مهمها واحدا بدليل توحيد الضمير في قطعته وهو باطل، لأن قوله بالسهم يدل على أن المراد مهمهان، وذلك لأنه لو كان مهمها واحدا لما كانوا في قطعته يقصدون جدلا، بل يقصدون التعجب وهو إرادته قطع مهمهين بأهبة واحدة وسهم واحد وهو من العزم القوي، وأما الضمير فهو عائد إلى مفهوم تقديره قطعت كليهما وهو لفظ مقصور معناه التثنية ولفظه للواحد، يقال : كلاهما معلوم ومجهول، قال تعالى : كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها [الكهف : ٣٣] فوحد اللفظ ولا حاجة هاهنا إلى التعسف، ولا مانع من أن يعطي اللّه جنتين وجنانا عديدة، وكيف وقد قال بعد : ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن : ٤٨] وقال : فيهما. والثاني وهو الصحيح أنهما جنتان وفيه وجوه أحدها : أنهما جنة للجن وجنة للإنس لأن المراد هذان النوعان وثانيهما : جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي لأن التكليف بهذين النوعين وثالثها : جنة هي جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء، ويحتمل أن يقال : جنتان جنة جسمية والأخرى روحية فالجسمية في نعيم والروحية في روح فكان كما قال تعالى : فَرَوْحٌ


الصفحة التالية
Icon