مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٧٧
وَالْمَرْجانُ
إشارة إلى صفائهن في الجنة، فأول ما بدأ بالعقليات وختم بالحسيات، كما قلنا : إن التشبيه لبيان مشابهة جسمهن بالياقوت والمرجان في الحمرة والبياض، فكذلك القول فيه حيث قدم بيان العفة على بيان الحسن ولا يبعد أن يقال : هو مؤكد لما مضى لأنهن لما كن قاصرات الطرف ممتنعات عن الاجتماع بالإنس والجن لم يطمثهن فهن كالياقوت الذي يكون في معدنه والمرجان المصون في صدفه لا يكون قد مسه يد لامس، وقد بينا مرة أخرى في قوله تعالى : كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات : ٤٩] أن (كأن) الداخلة على المشبه به لا تفيد من التأكيد ما تفيده الداخلة على المشبه، فإذا قلت : زيد كالأسد، كان معناه زيد يشبه الأسد، وإذا قلت كأن زيدا الأسد فمعناه يشبه أن زيدا هو الأسد حقيقة، لكن قولنا : زيد يشبه الأسد ليس فيه مبالغة عظيمة، فإنه يشبهه في أنهما حيوانان / وجسمان وغير ذلك، وقولنا : زيد يشبه لا يمكن حمله على الحقيقة، أما من حيث اللفظ فنقول : إذا دخلت الكاف على المشبه به، وقيل : إن زيدا كالأسد عملت الكاف في الأسد عملا لفظيا والعمل اللفظي مع العمل المعنوي، فكأن الأسد عمل به عمل حتى صار زيدا، وإذا قلت : كأن زيدا الأسد تركت الأسد على إعرابه فإذن هو متروك على حاله وحقيقته وزيد يشبه به في تلك الحال ولا شك في أن زيدا إذا شبه بأسد هو على حاله باق يكون أقوى مما إذا شبه بأسد لم يبق على حاله، وكأن من قال : زيد كالأسد نزل الأسد عن درجته فساواه زيد، ومن قال : كأن زيدا الأسد رفع زيدا عن درجته حتى ساوى الأسد، وهذا تدقيق لطيف. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٠ إلى ٦١]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
وفيه وجوه كثيرة حتى قيل : إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول الأولى : قوله تعالى :
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة : ١٥٢]، الثانية : قوله تعالى : إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء : ٨]، الثالثة : قوله تعالى :
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ولنذكر الأشهر منها والأقرب. أما الأشهر فوجوه أحدها : هل جزاء التوحيد غير الجنة، أي جزاء من قال : لا إله إلا اللّه إدخال الجنة ثانيها : هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ثالثها : هل جزاء من أحسن إليكم في الدنيا بالنعم وفي العقبى بالنعيم إلا أن تحسنوا إليه بالعبادة والتقوى، وأما الأقرب فإنه عام فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضا، ولنذكر تحقيق القول فيه وترجع الوجوه كلها إلى ذلك، فنقول : الإحسان يستعمل في ثلاث معان أحدها : إثبات الحسن وإيجاده قال تعالى : فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر : ٦٤] وقال تعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة :
٧] ثانيها : الإتيان بالحسن كالإظراف والإغراب للإتيان بالظريف والغريب قال تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام : ١٦٠] ثالثها : يقال : فلان لا يحسن الكتابة ولا يحسن الفاتحة أي لا يعلمهما، والظاهر أن الأصل في الإحسان الوجهان الأولان والثالث مأخوذ منهما، وهذا لا يفهم إلا بقرينة الاستعمال مما يغلب على الظن إرادة العلم، إذا علمت هذا فنقول : يمكن حمل الإحسان في الموضعين على معنى متحد من المعنيين ويمكن حمله فيهما على معنيين مختلفين أما الأول : فنقول : هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أي هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن، لكن الفعل الحسن من العبد ليس كل ما يستحسنه هو، بل الحسن هو ما استحسنه اللّه منه، فإن الفاسق ربما يكون الفسق في نظره حسنا وليس بحسن بل الحسن ما طلبه اللّه منه،


الصفحة التالية
Icon