مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٨٢
الأخضر ثم الأزرق ثم الأسود والأظهر أن الألوان الأصلية ثلاثة الأبيض والأسود وبينهما غاية الخلاف والأحمر متوسط بين الأبيض والأسود فإن الدم خلق على اللون المتوسط، فإن لم تكن الصحة على ما ينبغي فإن كان لفرط البرودة فيه كان أبيض وإن كان لفرط الحرارة فيه كان أسود لكن هذه الثلاثة يحصل منها الألوان الأخر فالأبيض إذا امتزج بالأحمر حصل الأصفر يدل عليه مزج اللبن الأبيض بالدم وغيره من الأشياء الحمر وإذا امتزج الأبيض بالأسود حصل اللون الأزرق يدل عليه خلط الجص المدقوق بالفحم وإذا امتزج الأحمر بالأسود حصل الأزرق أيضا لكنه إلى السواد أميل، وإذا امتزج الأصفر بالأزرق حصل الأخضر من الأصفر والأزرق وقد علم أن الأصفر من الأبيض والأحمر والأزرق من الأبيض والأسود والأحمر والأسود فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأصلية فيكون ميل الإنسان إليه لكونه مشتملا على الألوان الأصلية وهذا بعيد جدا والأقرب أن الأبيض يفرق البصر ولهذا لا يقدر الإنسان على إدامة النظر في الأرض عند كونها مستورة بالثلج وإنه يورث الجهر والنظر إلى الأشياء السود يجمع البصر ولهذا كره الإنسان النظر إليه وإلى الأشياء الحمر كالدم والأخضر لما اجتمع فيه الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض وحصل اللون الممتزج من الأشياء التي في بدن الإنسان وهي الأحمر / والأبيض والأصفر والأسود ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر ذكر اللّه تعالى في الآخرة ما هو على مقتضى طبعه في الدنيا.
المسألة الخامسة : العبقري منسوب إلى عبقر وهو عند العرب موضع من مواضع الجن فالثياب المعمولة عملا جيدا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها كأنها ليست من عمل الإنس، ويستعمل في غير الثياب أيضا حتى يقال للرجل الذي يعمل عملا عجيبا : هو عبقري أي من ذلك البلد
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في المنام الذي رآه :«فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه»
واكتفى بذكر اسم الجنس عن الجمع ووصفه بما توصف به الجموع فقال حسان : وذلك لما بينا أن جمع الرباعي يستثقل بعض الاستثقال، وأما من قرأ : عباقري فقد جعل اسم ذلك الموضع عباقر فإن زعم أنه جمعه فقد وهم، وإن جمع العبقري ثم نسب فقد التزم تكلفا خلاف ما كلف الأدباء التزامه فإنهم في الجمع إذا نسبوا ردوه إلى الواحد وهذا القارئ تكلف في الواحد وروده إلى الجمع ثم نسبه لأن عند العرب ليس في الوجود بلاد كلها عبقر حتى تجمع ويقال : عباقر، فهذا تكلف الجمع فيما لا جمع له ثم نسب إلى ذلك الجمع والأدباء تكره الجمع فيما ينسب لئلا يجمعوا بين الجمع والنسبة. ثم قال تعالى :
[سورة الرحمن (٥٥) : آية ٧٨]
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الترتيب وفيه وجوه أحدها : أنه تعالى لما ختم نعم الدنيا بقوله تعالى : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن : ٢٧] ختم نعم الآخرة بقوله : تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إشارة إلى أن الباقي والدائم لذاته هو اللّه تعالى لا غير والدنيا فانية، والآخرة وإن كانت باقية لكن بقاؤها بإبقاء اللّه تعالى ثانيها : هو أنه تعالى في أواخر هذه السور كلها ذكر اسم اللّه فقال في السورة التي قبل هذه : عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : ٥٥] وكون العبد عند اللّه من أتم النعم كذلك هاهنا بعد ذكر الجنات وما فيها من النعم قال : تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إشارة إلى أن أتم النعم عند اللّه تعالى، وأكمل اللذات ذكر اللّه تعالى، وقال في السورة التي بعد هذه : فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة : ٨٩] ثم قال تعالى في آخر


الصفحة التالية
Icon