مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٨٨
أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين، ثم إنه تعالى لم يقل : في مقابلتهم قوما يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر : ٣٢] لم يقل : منهم متخلف عن الكل.
المسألة الرابعة : ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب والجواب : أن نقول : ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة اللَّه تعالى ما يكفه مانعا عن المعصية، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزون بالعذاب، فلما ذكر تعالى : إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة : ١] وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من اللَّه فإن السابق يناله ما يناله بجذب، وإليه الإشارة
بقوله : جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة.
المسألة الخامسة : ما معنى قوله : ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟ نقول : هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره : أخبرك بما جرى عليّ ثم يقول هناك هو مجيبا لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل : من يعرف فلانا فيكون أبلغ من أن يصفه، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول : هذا نهاية ما هو عليه، فإذا قال : من يعرف فلانا بفرض السامع من نفسه شيئا، ثم يقول : فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه.
المسألة السادسة : ما إعرابه ومنه يعرف معناه؟ نقول : فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه وقوله : ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول :
لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهما ممتحنا زاعما أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول : إنك لا تعرف الجواب، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلا ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحنا زاعما أنك لا تعرف كنهه، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر، كما أن قائلا : إذا أراد أن يخبره غيره بأن زيدا وصل، وقال : إن زيدا ثم قبل قوله : جاء وقع بصره على زيد ورآه جالسا عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال : من جاء فإنه إن قال :
زيد يكون جوابا وكثيرا ما نقول : زيد ولا نقول : جاء، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل : الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول : ماذا أقول عنه. إذا علم هذا فنقول لما قال : فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه : إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال : ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ممتحنا زاعما أنه لا يفهم ليكون ذلك


الصفحة التالية
Icon