مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٩١
إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة : ٨٨] أي إن كان فردا منهم فجعل موضعه غير معرف / مع جواز أن يكون الشخص معرفا وموضعه غير معرف، كما قال تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات : ١٥] وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر : ٥٤] وبالعكس أيضا، وأما المعنوي : فنقول : عند ذكر الجمع جمع الجنات في سائر المواضع فقال تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وقال تعالى : أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ [الواقعة : ١١، ١٢] لكن السابقون نوع من المتقين، وفي المتقين غير السابقين أيضا، ثم إن السابقين لهم منازل ليس فوقها منازل، فهي صارت معروفة لكونها في غاية العلو أو لأنها لا أحد فوقها، وأما باقي المتقين فلكل واحد مرتبة وفوقها مرتبة فهم في جنات متناسبة في المنزلة لا يجمعها صقع واحد لاختلاف منازلهم، وجنات السابقين على حد واحد في على عليين يعرفها كل أحد، وأما الواحد منهم فإن منزلته بين المنازل، ولا يعرف كل أحد أنه لفلان السابق فلم يعرفها، وأما منازلهم فيعرفها كل أحد، ويعلم أنها للسابقين، ولم يعرف الذي للمتقين على وجه كذا.
المسألة الثانية : إضافة الجنة إلى النعيم من أي الأنواع؟ نقول : إضافة المكان إلى ما يقع في المكان يقال :
دار الضيافة، ودار الدعوة، ودار العدل، فكذلك جنة النعيم، وفائدتها أن الجنة في الدنيا قد تكون للنعيم، وقد تكون للاشتغال والتعيش بأثمان ثمارها، بخلاف الجنة في الآخرة فإنها للنعيم لا غير.
المسألة الثالثة : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، ويحتمل أن يكون خبرا واحدا، أما الأول فتقديره : أولئك المقربون كائنون في جنات، كقوله : ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج : ١٦]، وأما الثاني فتقديرهم المقربون في الجنات من اللّه كما يقال : هو المختار عند الملك في هذه البلدة، وعلى الوجه الأول فائدته بيان تنعيم جسمهم، وكرامة نفسهم فهم مقربون عند اللّه فهم في غاية اللذة وفي جنات، فجسمهم في غاية النعيم، بخلاف المقربين عند الملوك، فإنهم يلتذون بالقرب لكن لا يكون لجسمهم راحة، بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال، ولهذا قال : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ولم يقتصر على جنات، وعلى الوجه الثاني فائدته التمييز عن الملائكة، فإن المقربين في يومنا هذا في السموات هم الملائكة والسابقون المقربون في الجنة فيكون المقربون في غيرها هم الملائكة وفيه لطيفة : وهي أن قرب الملائكة قرب الخواص عند الملك الذين هم للأشغال، فهم ليسوا في نعيم، وإن كانوا في لذة عظيمة ولا يزالون مشفقين قائمين بباب اللّه يرد عليهم الأمر ولا يرتفع عنهم التكليف، والسابقون لهم قرب عند اللّه، كما يكون لجلساء الملوك، فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب، ويتنعمون بالراحة. ثم قال تعالى :
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٣ إلى ١٤]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
وهذا خبر بعد خبر، وفيه مسائل.
المسألة الأولى : قد ذكرت أن قوله : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة : ١٠] جملة، وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم، فكيف جاء خبر بعده؟ نقول : ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر، كما أن واحدا يقول : زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع


الصفحة التالية
Icon