مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٣٩٤
حيث اللغة وهو أن الكأس إناء فيه شراب فيدخل في مفهومه المشروب، والإبريق آنية لا يشترط في إطلاق اسم الإبريق عليها أن يكون فيها شراب، وإذا ثبت هذا فنقول الإناء المملوء الاعتبار لما فيه لا للإناء، وإذا كان كذلك فاعتبار الكأس بما فيه لكن فيه مشروب من جنس واحد وهو المعتبر، والجنس لا يجمع إلا عند تنوعه فلا يقال للأرغفة من جنس واحد : أخباز، وإنما يقال : أخباز عند ما يكون بعضها أسود وبعضها أبيض وكذلك اللحوم يقال عند تنوع الحيوانات التي منها اللحوم ولا يقال للقطعتين من اللحم لحمان، وأما الأشياء المصنفة فتجمع، فالأقداح وإن كانت كبيرة لكنها لما ملئت خمرا من جنس واحد لم يجز أن يقال لها : خمور فلم يقل :
كئوس وإلا لكان ذلك ترجيحا للظروف، لأن الكأس من حيث إنها شراب من جنس واحد لا بجمع واحد فيترك الجمع ترجيحا لجانب المظروف بخلاف الإبريق فإن المعتبر فيه الإناء فحسب، وعلى هذا يتبين بلاغة القرآن حيث لم يرد فيه لفظ الكئوس إذ كان ما فيها نوع واحد من الخمر، وهذا بحث عزيز في اللغة.
المسألة الثانية : في تأخير الكأس ترتيب حسن، فكذلك في تقديم الأكواب إذا كان الكوب منه يصب الشراب في الإبريق ومن الإبريق الكأس.
المسألة الثالثة : مِنْ مَعِينٍ بيان ما في الكأس أو بيان ما في الأكواب والأباريق، نقول : يحتمل أن يكون الكل من معين والأول أظهر بالوضع، والثاني ليس كذلك، فلما قال : وَكَأْسٍ فكأنه قال : ومشروب، وكأن السامع محتاجا إلى معرفة المشروب، وأما الإبريق فدلالته على المشروب ليس بالوضع، وأما المعنى فلأن كون الكل ملآنا هو الحق، ولأن الطواف بالفارغ لا يليق فكان الظاهر بيان ما في الكل، ومما يؤيد الأول هو أنه تعالى عند ذكر الأواني ذكر جنسها لا نوع ما فيها فقال تعالى : وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ [الإنسان : ١٥] الآية، وعند ذكر الكأس بين ما فيها فقال : وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ فيحتمل أن الطواف بالأباريق، وإن كانت فارغة للزينة والتجمل وفي الآخرة تكون للإكرام والتنعم لا غير.
المسألة الرابعة : ما معنى المعين؟ قلنا : ذكرنا في سورة الصافات أنه فعيل أو مفعول ومضى فيه خلاف، فإن قلنا : فعيل فهو من معن الماء إذا جرى وإن قلنا : مفعول فهو من عانه إذا شخصه بعينه وميزه، والأول أصح وأظهر لأن المعيون يوهم بأنه معيوب لأن قول القائل : عانني فلان معناه ضرني إذا أصابتني عينه، ولأن الوصف بالمفعول لا فائدة فيه، وأما الجريان في المشروب فهو إن كان في الماء فهو صفة مدح وإن كان في غيره فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا، فيكون كقوله تعالى : وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ [محمد : ١٥] ثم قال تعالى :
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٩]
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا يُصَدَّعُونَ فيه وجهان أحدهما : لا يصيبهم منها صداع يقال : صدعني فلان أي أورثني الصداع والثاني : لا ينزفون عنها ولا ينفدونها من الصدع، والظاهر أن أصل الصداع منه، وذلك لأن الألم الذي في الرأس يكون في أكثر الأمر بخلط وريح في أغشية الدماغ فيؤلمه فيكون الذي به صداع كأنه يتطرف في غشاء دماغه.
المسألة الثانية : إن كان المراد نفي الصداع فكيف يحسن عنها مع أن المستعمل في السبب كلمة من،


الصفحة التالية
Icon