مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٠٣
قبله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [الزخرف : ٨٧] وقال من قبل : قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف : ٨١] وكان هو المخاطب أولا، إذا تحقق هذا؟ نقول : إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظا مراعى، فقال هاهنا : إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائما من الملائكة والناس كما قال تعالى : وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ [الرعد : ٢٣، ٢٤] وقال تعالى : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس : ٥٨] حيث كان المسلم منفردا، وهو اللَّه كأنه قال : سلام قولا منا، وقال تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً [فصلت : ٣٣] وقال : هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل : ٦] لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلا فإن قوله : قويم، ونهجه مستقيم، وقال تعالى : وَقِيلِهِ يا رَبِّ [الزخرف : ٨٨] لأن كل أحد يقول :
إنهم لا يؤمنون. أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم وأما غيرهم فلكفرانهم بإسرافهم وإصرارهم، ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله، فقال : إِلَّا قِيلًا وهو سلام عليك، وأما قول من يعرف وهو اللَّه فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال : سَلامٌ قَوْلًا [يس : ٥٨].
المسألة السادسة :(سلام)، فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه صفة وصف اللَّه تعالى بها قِيلًا كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال : رجل عدل، وقوم صوم، ومعناه إلا قيلا سالما عن العيوب، وثانيها : هو مصدر تقديره، إلا أن يقولوا سلاما وثالثها : هو بدل من قِيلًا، تقديره : إلا سلاما.
المسألة السابعة : تكرير السلام هل فيه فائدة؟ نقول : فيه إشارة إلى تمام النعمة، وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام، فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر : السلام عليك، فيقول الآخر : وعليك السلام، فكذلك في الآخرة يقولون : سَلاماً سَلاماً ثم إنه تعالى لما قال : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس : ٥٨] لم يكن له رد لأن تسليم اللَّه على عبده مؤمن له، فأما اللَّه تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد، بل الرد إن كان فهو قول المؤمن : سلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين.
المسألة الثامنة : ما الفرق بين قوله تعالى : سَلاماً سَلاماً بنصبهما، وبين قوله تعالى : قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود : ٦٩] قلنا : قد ذكرنا هناك أن قوله : سَلامٌ عَلَيْكَ أتم وأبلغ من قولهم سلاما عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا، وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد، وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيرا.
المسألة التاسعة : إذا كان قول القائل : سَلامٌ عَلَيْكَ أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة / صارت بالنصب، ومن قرأ (سلام) ليس مثل الذي قرأ بالنصب، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب، فالنصب بقوله : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل، وقولهم : سَلامٌ أبعد من اللغو من قولهم : سَلاماً فقال : إِلَّا قِيلًا سَلاماً ليكون أقرب إلى اللغو من غيره، وإن كان في نفسه بعيدا عنه. ثم قال تعالى :
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ إلى ٢٩]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)


الصفحة التالية
Icon