مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤١٢
لفظ الإصرار فإن الإصرار مداومة المعصية والغلول، ولا يقال : في الخير أصر ثالثها : الحنث فإنه فوق الذنب فإن الحنث لا يكاد في اللغة يقع على الصغيرة والذنب يقع عليها، وأما الحنث في اليمين فاستعملوه لأن نفس الكذب عند العقلاء قبيح، فإن مصلحة العالم منوطة بالصدق وإلا لم يحصل لأحد بقول أحد ثقة فلا يبنى على كلامه مصالح، ولا يجتنب عن مفاسد، ثم إن الكذب لما وجد في كثير من الناس لأغراض فاسدة أرادوا توكيد الأمر بضم شيء إليه يدفع توهمه فضموا إليه الأيمان ولا شيء فوقها، فإذا حنث لم يبق أمر يفيد الثقة فيلزم منه فساد فوق فساد الزنا والشرب، غير أن اليمين إذا كانت على أمر مستقبل ورأى الحالف غيره جوز الشرع الحنث ولم يجوزه في الكبيرة كالزنا والقتل لكثرة وقوع الأيمان وقلة وقوع القتل والذي يدل على أن الحنث هو الكبيرة قولهم للبالغ : بلغ الحنث، أي بلغ مبلغا بحيث يرتكب الكبيرة وقبله ما كان ينفي عنه الصغيرة، لأن الولي مأمور بالمعاقبة على إساءة الأدب وترك الصلاة.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : الْعَظِيمِ هذا يفيد أن المراد الشرك، فإن هذه الأمور لا تجتمع في غيره.
المسألة الخامسة : كيف اشتهر مِتْنا بكسر الميم مع أن استعمال القرآن في المستقبل يموت قال تعالى عن يحيى وعيسى عليهما السلام : وَيَوْمَ أَمُوتُ [مريم : ٣٣] ولم يقرأ أمات على وزن أخاف، وقال تعالى :
قُلْ مُوتُوا [آل عمران : ١١٩] ولم يقل : قل ماتوا، وقال تعالى : وَلا تَمُوتُنَّ [آل عمران : ١٠٢] ولم يقل : ولا تماتوا كما قال : أَلَّا تَخافُوا [فصلت : ٣٠] قلنا : فيه وجهان أحدهما : أن هذه الكلمة خالفت غيرها، فقيل فيها : أَمُوتُ والسماع مقدم على القياس والثاني : مات يمات لغة في مات يموت، فاستعمل ما فيها الكسر لأن / الكسر في الماضي يوجد أكثر الأمرين أحدهما : كثرة يفعل على يفعل وثانيهما : كونه على فعل يفعل، مثل خاف يخاف، وفي مستقبلها الضم لأنه يوجد لسببين أحدهما : كون الفعل على فعل يفعل، مثل طال يطول، فإن وصفه بالتطويل دون الطائل يدل على أنه من باب قصر يقصر، وثانيهما : كونه على فعل يفعل، تقول : فعلت في الماضي بالكسر وفي المستقبل بالضم.
المسألة السادسة : كيف أتى باللام المؤكدة في قوله : لَمَبْعُوثُونَ مع أن المراد هو النفي وفي النفي لا يذكر في خبر إن اللام يقال : إن زيدا ليجيء وإن زيدا لا يجيء، فلا تذكر اللام، وما مرادهم بالاستفهام إلا الإنكار بمعنى إنا لا نبعث؟ نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : عند إرادة التصريح بالنفي يوجد التصريح بالنفي وصيغته ثانيهما : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ونحن نستكثر مبالغته وتأكيده فحكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم فقالوا أولا : أَإِذا مِتْنا ولم يقتصروا عليه بل قالوا بعده : وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أي فطال عهدنا بعد كوننا أمواتا حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا، ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا : إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه أحدها : استعمال كلمة إن ثانيها : إثبات اللام في خبرها ثالثها : ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، فقالوا لنا : إنكم لمبعوثون ثم زادوا وقالوا :
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يعني هذا أبعد فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات فكيف يمكن البعث؟ وقد بينا في سورة والصافات هذا كله وقلنا : إن قوله : أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات : ١٧]