مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤١٦
الأكل ولا يمكنك أن تذكر علة له، كما تقول : لم فعلت؟ موبخا، يكون معناه فعلت أمرا لا سبب له ولا يمكنك ذكر سبب له ثم إنهم تركوا حرف الاستفهام عن العلة وأتوا بحرف الاستفهام عن الحكم، فقالوا : هلا فعلت؟
كما يقولون في موضع : لم فعلت هذا وأنت تعلم فساده، أتفعل هذا وأنت عاقل؟ وفيه زيادة حث لأن قول القائل : لم فعلت حقيقته سؤال عن العلة، ومعناه أن علته غير معلومة وغير ظاهرة، فلا يجوز ظهور وجوده، وقوله : أفعلت، سؤال عن حقيقته، ومعناه أنه في جنسه غير ممكن، والسائل عن العلة كأنه سلم الوجود وجعله معلوما وسأل عن العلة كما يقول القائل : زيد جاء فلم جاء، والسائل عن الوجود لم يسلمه، وقول القائل : لم فعلت وأنت تعلم ما فيه دون قوله : أفعلت وأنت تعلم ما فيه، لأن في الأول جعله كالمصيب في فعله لعلة خفية تطلب منه، وفي الثاني جعله مخطئا في أول الأمر، وإذا علم ما بين لم فعلت، وأفعلت، علم ما بين لم تفعل وهلا تفعل، وأما (لو لا) فنقول : هي كلمة شرط في الأصل والجملة الشرطية غير مجزومة بها كما أن جملة الاستفهام غير مجزوم به لكن لولا تدل على الاعتساف وتزيد نفي النظر والتواني، فيقول : لولا تصدقون، بدل قوله : لم لا، وهلا، لأنه أدل على نفي ما دخلت عليه وهو عدم التصديق وفيه لطيفة : وهي أن لولا تدخل على فعل ماض على مستقبل قال تعالى : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة : ١٢٢] فما وجه اختصاص المستقبل هاهنا بالذكر وهلا قال : فلو لا صدقتم؟ نقول : هذا كلام معهم في الدنيا والإسلام فيها مقبول ويجب ما قبله فقال : لم لا تصدقون في ساعتكم، والدلائل واضحة مستمر والفائدة حاصلة، فأما في قوله : فَلَوْ لا نَفَرَ لم تكن الفائدة تحصل إلا بعد مدة فقال : لو سافرتم لحصل لكم الفائدة في الحال وقد فات ذلك، فإن كنتم لا تسافرون في الحال تفوتكم الفائدة أيضا في الاستقبال، ثم قال تعالى : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ من تقرير قوله تعالى : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ وذلك لأنه تعالى لما قال : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ قال الطبيعيون : نحن موجودون من نطف الخلق بجواهر كامنة وقبل كل واحد نطفة واحد فقال
تعالى ردا عليهم : هل رأيتم هذا المني وأنه جسم ضعيف متشابه الصورة لا بد له من مكون، فأنتم خلقتم النطفة أم غيركم خلقها، ولا بد من الاعتراف بخالق غير مخلوق قطعا للتسلسل الباطل وإلى ربنا المنتهى، ولا يرتاب فيه أحد من أول ما خلق اللّه النطفة وصورها وأحياها ونورها فلم لا تصدقون أنه واحد أحد صمد قادر على الأشياء، فإنه يعيدكم كما أنشأكم في الابتداء، والاستفهام يفيد زيادة تقرير وقد علمت ذلك مرارا. قوله تعالى :
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٠ إلى ٦٢]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الترتيب فيه وجهان أحدهما : أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك : ٢] فقال : نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الواقعة : ٥٧] ثم قال : نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فمن قدر على الإحياء والإماتة وهما ضدان ثبت كونه مختارا فيمكن الإحياء ثانيا منه بعد الإماتة بخلاف ما لو كان الإحياء منه ولم يكن له قدرة على الإماتة فيظن به أنه موجب لا مختار، والموجب لا يقدر على كل شي ء