مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٤٢
تلك الماهيات عن ذلك التسبيح، وإنما قلنا : إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها، لأن كل ما عدا الواجب ممكن، وكل ممكن فهو مفتقر إلى الواجب، وكون الواجب واجبا يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه، فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي، وتكون حاصلة في المستقبل، واللَّه أعلم.
المسألة الثالثة : هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة، وأخرى بنفسه كما في قوله : وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح : ٩] وأصله التعدي بنفسه، لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له، وإما أن يراد يسبح للَّه أحدث التسبيح لأجل اللَّه وخالصا لوجهه.
المسألة الرابعة : زعم الزجاج أن المراد بهذا التسبيح، التسبيح الذي هو القول، واحتج عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء : ٤٤] فلو كان المراد من التسبيح، هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه الثاني : أنه تعالى قال : وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الأنبياء : ٧٩] فلو كان تسبيحا عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص لداود عليه السلام. واعلم أن هذا الكلام ضعيف [لحجتين ] :
أما الأولى : فلأن دلالة هذه الأجسام على تنزيه ذات اللَّه وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه، ولذلك فإن العقلاء اختلفوا فيها، فقوله : وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة، وأيضا فقوله : لا تَفْقَهُونَ إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين، فهو خطاب مع الكل فكأنه قال : كل هؤلاء ما فقهوا ذلك، وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم.
وأما الحجة الثانية : فضعيفة، لأن هناك من المحتمل أن اللَّه خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح. أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح اللَّه على سبيل النطق بذلك التسبيح، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال اللّه تعالى على كونه عالما حيا، وذلك كفر، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف باللَّه تعالى، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات، فإذا التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسرا بأحد وجهين الأول : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع، إذا عرفت هذه المقدمة، .
فنقول : إن حملنا / التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول، كان المراد بقوله : ما فِي السَّماواتِ من في السموات ومنهم حملة العرش : فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ [فصلت : ٣٨]. ومنهم المقربون : قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ : ٤١] ومن سائر الملائكة : قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا [الفرقان : ١٨] وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال ذو النون : لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الأنبياء : ٨٧] وقال موسى : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف : ١٤٣] والصحابة يسبحون كما قال : سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران : ١٩١] وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي :
فأجزاء السموات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال اللَّه


الصفحة التالية
Icon