مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٤٩
وذهب آخرون إلى أن أول العلم باللَّه هو العلم بكونه مؤثرا، وعلى التقديرين فالعلم بكونه قادرا متقدم على العلم بكونه عالما.
ثم قال تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه قد ثبت أن كل ما عدا الواجب الحق فهو ممكن، وكل ممكن فوجوده من الواجب، فإذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة إفادة الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهية وبين وجودها، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية، ومن هذا السر قال المحققون : ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللَّه قبله، وقال المتوسطون : ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللَّه معه، وقال الظاهريون : ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللَّه بعده.
واعلم أن هذه الدقائق التي أظهرناها في هذه المواضع لها درجتان إحداهما : أن يصل الإنسان إليها بمقتضى الفكرة والروية والتأمل والتدبر والدرجة الثانية : أن تتفق لنفس الإنسان / قوة ذوقية وحالة وجدانية لا يمكن التعبير عنها، وتكون نسبة الإدراك مع الذوق إلى الإدراك لا مع الذوق، كنسبة من يأكل السكر إلى من يصف حلاوته بلسانه.
المسألة الثانية : قال المتكلمون : هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ والحراسة، وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز، فإذن قوله : وَهُوَ مَعَكُمْ لا بد فيه من التأويل وإذا جوزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع.
المسألة الثالثة : اعلم أن في هذه الآيات ترتيبا عجيبا، وذلك لأنه بين بقوله : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ كونه إلها لجميع الممكنات والكائنات، ثم بين كونه إلها للعرش والسموات والأرضين. ثم بين بقوله : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالما بظواهرنا وبواطننا، فتأمل في كيفية هذا الترتيب، ثم تأمل في ألفاظ هذه الآيات فإن فيها أسرارا عجيبة وتنبيهات على أمور عالية. ثم قال تعالى :
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٥]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥)
أي إلى حيث لا مالك سواه، ودل بهذا القول على إثبات المعاد. ثم قال تعالى :
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٦]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
وهذه الآيات قد تقدم تفسيرها في سائر السور، وهي جامعة بين الدلالة على قدرته، وبين إظهار نعمه، والمقصود من إعادتها البعث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٧]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
قوله تعالى : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواعا من الدلائل على التوحيد والعلم والقدرة، أتبعها بالتكاليف، وبدأ بالأمر بالإيمان باللَّه ورسوله، فإن قيل قوله : آمِنُوا خطاب مع من عرف اللَّه، أو


الصفحة التالية
Icon