مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٦٤
أولها : أنها لَعِبٌ وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدا، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة وثانيها : أنها لَهْوٌ وهو فعل الشبان، والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة، وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهبا والعمر ذاهبا، واللذة منقضية، والنفس ازدادت شوقا وتعطشا إليه مع فقدانها، فتكون المضار مجتمعة متوالية وثالثها : أنها زِينَةٌ وهذا دأب النساء لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح، وعمارة البناء المشرف على أن يصير خرابا، والاجتهاد في تكميل الناقص، ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي، فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها، فاسدة لذاتها، فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها، قال ابن عباس : المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة، وهذا كما قيل :
«حياتك يا مغرور سهو وغفلة» ورابعها : تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر وكلها ذاهبة وخامسها : قوله : وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ قال ابن عباس : يجمع المال في سخط اللَّه، ويتباهى به على أولياء اللَّه ويصرفه في مساخط اللَّه، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام، وبين أن حال الدنيا إذا لم يخل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة، ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلا، فقال : كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني المطر، ونظير قوله تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ [الكهف : ٤٥] والكاف في قوله : كَمَثَلِ غَيْثٍ موضعه رفع من وجهين أحدهما : أن يكون صفة لقوله : لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ، والآخر : أن يكون خبرا بعد خبر قاله الزجاج، وقوله : أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ فيه قولان : الأول : قال ابن مسعود : المراد من الكفار الزراع قال الأزهري : والعرب تقول للزارع : كافر، لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض، وإذا أعجب الزراع نباته مع علمهم به فهو في غاية الحسن الثاني : أن المراد بالكفار في هذه الآية الكفار باللَّه وهم أشد إعجابا بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين، لأنهم لا يرون سعادة سوى سعادة الدنيا، وقوله : نَباتُهُ أي ما نبت من ذلك الغيث، وباقي الآية مفسر في سورة الزمر.
ثم إنه تعالى ذكر بعده حال الآخرة فقال : وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة، ومغفرة من اللَّه ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وذلك لأنه لما وصف الدنيا بالحقارة وسرعة الانقضاء، بين أن الآخرة إما عذاب شديد دائم، وإما رضوان، وهو أعظم درجات الثواب، ثم قال : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني لمن أقبل عليها، وأعرض بها من طلب الآخرة، قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان اللَّه وطلب الآخرة فنعم الوسيلة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢١]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
ثم قال تعالى : سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ والمراد كأنه تعالى قال : لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة.
واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله : سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ثم شرح هاهنا كيفية تلك


الصفحة التالية
Icon