مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٦٦
الطاعات بحكم تصرف الشرع، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء، فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق، فالآية حجة عليهم، ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية : ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني أن الجنة فضل لا معاملة، فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى، فإن قيل :
فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ قلنا : نقطع بحصول الجنة لهم، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم، لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد، فقد كانت الجنة معدة لهم، فإن قيل : فالمرتد قد آمن باللَّه، فوجب أن يدخل تحت الآية قلت : خص من العموم، فيبقى العموم حجة فيما عداه.
ثم قال تعالى : ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل، وهذا أيضا قول الكعبي من المعتزلة، واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية، أجاب القاضي عنه فقال : هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلا من اللَّه تعالى، فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال، وإنما قلنا : إنه لا منافاة بين هذين الوصفين، لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق، فلما كان تعالى متفضلا بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلا بها، قال : ولما ثبت هذا، ثبت أن قوله : يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا بد وأن يكون مشروطا بمن يستحقه، ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل : سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معنى.
واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلا بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلا بنفس الجنة، فإن من وهب من إنسان كاغدا ودواة وقلما، ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفا وباعه من الواهب، لا يقال : إن أداء ذلك الثمن تفضيل، بل يقال : إنه مستحق، فكذا هاهنا، وأما قوله أولا إنه لا بد من الاستحقاق، وإلا لم يكن لقوله من قبل : سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ معنى، فجوابه أن هذا استدلال عجيب، لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء، ويقول : لا أتفضل إلا مع هذا الشرط.
ثم قال تعالى : وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٢]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)
[في قوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ ] قال الزجاج : إنه تعالى لما قال : سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [الحديد : ٢١] بين أن المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر، فقال : ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند اللَّه، والمصيبة في الأرض هي قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوع، والمصيبة في الأنفس فيها قولان : الأول : أنها هي : الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود عليها والثاني : أنها تتناول الخير / والشر أجمع لقوله بعد ذلك : لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد : ٢٣] ثم قال : إِلَّا فِي كِتابٍ يعني مكتوب عند اللَّه في اللوح المحفوظ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon