مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٦٩
والشكر عليها فغير مذموم، وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا. واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد والجواب عنه أن كثيرا من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال : المحبة إرادة مخصوصة، وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة. ثم قال تعالى :
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٤]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أن هذا بدل من قوله : كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد : ٢٣] كأنه قال : لا يحب المختال ولا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغى فإذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا به بل يأمرون الناس بالبخل به، وكل ذلك نتيجة فرحهم عند إصابته، ثم قال بعد ذلك : وَمَنْ يَتَوَلَّ عن أوامر اللَّه ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن اللَّه غني عنه القول الثاني : أن قوله :/ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، وهو في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى اللَّه عليه وسلم ويخلوا ببيان نعته، وهو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله : وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وحذف الخبر كثير في القرآن كقوله : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد : ٣١].
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قرأ نافع وابن عامر فإن اللَّه الغني الحميد، وحذفوا لفظ هُوَ وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشأم، وقرأ الباقون هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قال أبو علي : ينبغي أن هو في هذه الآية فصلا لا مبتدأ، لأن الفصل حذفه أسهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، وقد يحذف فلا يخل بالمعنى كقوله : إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً [الكهف : ٣٩].
المسألة الثالثة : قوله : فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ معناه أن اللَّه غني فلا يعود ضرر عليه ببخل ذلك البخيل، وقوله : الْحَمِيدُ كأنه جواب عن السؤال يذكر هاهنا، فإنه يقال : لما كان تعالى عالما بأنه يبخل بذلك المال ولا يصرفه إلى وجوه الطاعات، فلم أعطاه ذلك المال؟ فأجاب بأنه تعالى حميد في ذلك الإعطاء، ومستحق للحمد حيث فتح عليه أبواب رحمته ونعمته، فإن قصر العبد في الطاعة فإن وباله عائد إليه.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
ثم قال تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وفي تفسير البينات قولان : الأول : وهو قول مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة والثاني : وهو قول مقاتل بن حيان : أي أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة اللَّه وإلى الإعراض عن غير اللَّه، والأول هو الوجه الصحيح لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات.
ثم قال تعالى : وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.


الصفحة التالية
Icon