مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٧٣
مرتكبا للكبيرة، والثاني : أن المراد بالفاسق هاهنا الكافر، لأن الآية دلت على أنه تعالى جعل الفساق بالضد من المهتدين، فكأن المراد أن فيهم من قبل الدين واهتدى، ومنهم من لم يقبل ولم يهتد، ومعلوم أن من كان كذلك كان كافرا، وهذا ضعيف، لأن المسلم الذي عصى قد يقال فيه : إنه لم يهتد إلى وجه رشده ودينه.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٧]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
قوله تعالى : ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ.
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : معنى قفاه أتبعه بعد أن مضى، والمراد أنه تعالى أرسل بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام فأرسله اللَّه تعالى بعدهم وآتاه الإنجيل.
المسألة الثانية : قال ابن جني قرأ الحسن : وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بفتح الهمزة، ثم قال : هذا مثال لا نظير له، لأن أفعيل وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته، لأنه يستخرج به الأحكام، والتوراة فوعلة من ورى الزند يرى إذا أخرج النار، ومثله الفرقان وهو فعلان من فرقت بين الشيئين، فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة لأنه لا نظير له، وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع وله وجهان أحدهما : أنه شاذ كما حكى بعضهم في البرطيل وثانيهما : أنه ظن الإنجيل أعجميا فحرف مثاله تنبيها على كونه أعجميا.
قوله تعالى : وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق للَّه تعالى وكسب للعبد، قالوا : لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة للَّه تعالى، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية، قال القاضي : المراد بذلك أنه تعالى لطف بهم حتى قويت دواعيهم إلى الرهبانية، التي هي تحمل الكلفة الزائدة على ما يجب من الخلوة واللباس الخشن والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل، على أنا وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا أيضا، وذلك لأن حال الاستواء يمتنع حصول الرجحان وإلا فقد حصل الرجحان عند الاستواء والجمع بينهما متناقض، وإذا كان الحصول عند الاستواء ممتنعا، كان عند المرجوحية أولى أن يصير ممتنعا، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.
المسألة الثانية : قال مقاتل : المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعض، كما وصف اللَّه أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله : رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح : ٢٩].
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرئ (رآفة) على فعالة.
المسألة الرابعة : الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب، كخشيان من خشي، وقرئ :(و رهبانية) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان، وهو جمع راهب كراكب وركبان، والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفا زائدة على


الصفحة التالية
Icon