مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٨٨
غرضه أن تؤمنوا باللَّه، ولا تستمروا على ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الإيمان وعدم الكفر.
المسألة الثانية : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية، فقال : أمرهم بهذه الأعمال، وبين أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان ومن أنكر ذلك قال : إنه تعالى لم يقل :(ذلك لتؤمنوا باللَّه بعمل هذه الأشياء)، ونحن نقول المعنى ذلك لتؤمنوا باللَّه بالإقرار بهذه الأحكام، ثم إنه تعالى أكد في بيان أنه لا بد لهم من الطاعة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي لمن جحد هذا وكذب به.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥)
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في المحادة قولان قال المبرد : أصل المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب : حداد، وللمنوع الرزق محدود، قال أبو مسلم الأصفهاني : المحادة مفاعلة من لفظ الحديد، والمراد المقابلة بالحديد سواء كان ذلك في الحقيقة، أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد، أما المفسرون فقالوا :
يحادون أي يعادون ويشاقون، وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء اللَّه وتارة بالتكذيب والصد عن دين اللَّه.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : يُحَادُّونَ يمكن أن يكون راجعا إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادون الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم اللَّه تعالى، ويحتمل سائر الكفار فأعلم اللَّه رسوله أنهم كُبِتُوا أي خذلوا، قال المبرد : يقال : كبت اللَّه فلانا إذا أذله، والمردود بالذل يقال له : مكبوت، ثم قال :
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أعداء الرسل : وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ / تدل على صدق الرسول :
وَلِلْكافِرِينَ بهذه الآيات : عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم، فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان، وفي الآخرة العذاب الشديد.
ثم ذكر تعالى ما به يتكامل هذا الوعيد فقال :
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٦]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)
يَوْمَ منصوب بينبئهم أو بمهين أو بإضمار اذكر، تعظيما لليوم، وفي قوله : جَمِيعاً قولان :
أحدهما : كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث والثاني : مجتمعين في حال واحدة، ثم قال : فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تجليلا لهم، وتوبيخا وتشهيرا لحالهم، الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار، لما يلحقهم من الخزي على رؤس الإشهاد وقوله : أَحْصاهُ اللَّهُ أي أحاط بجميع أحوال تلك الأعمال من المكية والكيفية، والزمان والمكان لأنه تعالى عالم بالجزئيات، ثم قال : وَنَسُوهُ لأنهم استحقروها وتهاونوا بها فلا جرم نسوها : وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي مشاهد لا يخفى عليه شيء ألبتة.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٧]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)


الصفحة التالية
Icon