مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٤٩٣
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)
قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر، أمرهم الآن بما يصير سببا لزيادة المحبة والمودة، وقوله : تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم : افسح عني، أي تنح، ولا تتضاموا، يقال : بلدة فسيحة، ومفازة فسيحة، ولك فيه فسحة، أي سعة.
المسألة الثانية : قرأ الحسن وداود بن أبي هند :(تفاسحوا)، قال ابن جني : هذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل :(تفسحوا)، فمعناه ليكن هناك تفسح، وأما التفاسح فتفاعل، والمراد هاهنا المفاعلة، فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة، وقرئ : في المجلس قال الواحدي : والوجه التوحيد لأن المراد مجلس النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو واحد، ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة، أي موضع جلوس.
المسألة الثالثة : ذكروا في الآية أقوالا : الأول : أن المراد مجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب منه، وحرصا على استماع كلامه، وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوها الأول :
قال مقاتل بن حيان : كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صلى اللَّه عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول، فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان، قم يا فلان، فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، وشق ذلك على من أقيم / من مجلسه، وعرفت الكراهية في وجوههم، وطعن المنافقون في ذلك، وقالوا : واللَّه ما عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة
الثاني : روي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن الشماس، وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام، ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه، وإن فلانا لم يفسح له، فنزلت هذه الآية، وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد، الثالث : أنهم كانوا يحبون القرب من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى فأمرهم اللَّه تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء، وكان أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح، القول الثاني : وهو اختيار الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال، وهو كقوله : مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران : ١٢١] وكان الرجل يأتي الصف فيقول تفسحوا، فيأبون لحرصهم على الشهادة والقول الثالث : أن المراد جميع المجالس والمجامع، قال القاضي : والأقرب أن المراد، منه مجلس الرسول عليه السلام، لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهودا، والمعهود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول صلى اللَّه عليه وسلم الذي يعظم التنافس عليه، ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه، ولما فيه من المنزلة،


الصفحة التالية
Icon