مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٥٠٤ فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر، والكفر في البلاء والجلاء، والمؤمنين أيضا يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي.
فإن قيل : هذا الاعتبار إنما يصلح لو قلنا : إنهم غدروا وكفروا فعذبوا، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر، إلا أن هذا القول فاسد طردا وعكسا أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر، وما عذب في الدنيا وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن، بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار، وأيضا فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم :
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين، ومعلوم أن هذا لا يصلح، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح والجواب : أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب أولها : كونه تخريبا للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين وثانيها : وهو أعم من الأول، كونه عذابا في الدنيا وثالثها : وهو أعم من الثاني، كونه مطلق العذاب، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب، فأما خصوص كونه تخريبا أو قتلا في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة، والغدر والكفر يناسبان العذاب، فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب، فأينما حصلا حصل العذاب / من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح.
المسألة الثانية : الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبرا لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وفي قوله : يا أُولِي الْأَبْصارِ وجهان الأول : قال ابن عباس : يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني : قال الفراء : يا أُولِي الْأَبْصارِ يا من عاين تلك الواقعة المذكورة.
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٣]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣)
معنى الجلاء في اللغة، الخروج من الوطن والتحول عنه، فإن قيل : أن (لو لا) تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا، لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب، فإذا يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال، قلنا معناه : ولولا أن كتب اللَّه عليهم الجلاء نوع من أنواع التعذيب، فإذا يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال، قلنا معناه : ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة، وأما قوله : وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفا على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا، أن (لولا) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
أما قوله تعالى : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة اللَّه


الصفحة التالية
Icon