مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٥٢١
اختلفوا في المراد من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا / رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على ترك القتال، والمظاهرة في العداوة، وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم، وهذا قول ابن عباس والمقاتلين والكلبي، وقال مجاهد : الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا، وقيل : هم النساء والصبيان، وعن عبد اللَّه بن الزبير : أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر قدمت أمها فتيلة عليها وهي مشركة بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول، فأمرها النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها،
وعن ابن عباس : أنهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرها، وعن الحسن : أن المسلمين استأمروا رسول اللَّه في أقربائهم من المشركين أن يصلوهم، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، وقيل الآية في المشركين، وقال قتادة نسختها آية القتال : وقوله : أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ وكذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ والمعنى : لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة، وقال أهل التأويل : هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة، وقوله تعالى : وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ قال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يريد أهل البر والتواصل، وقال مقاتل : أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا، ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال : إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ...
أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وفيه لطيفة : وهي أنه يؤكد قوله تعالى : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ. ثم قال تعالى :
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)
في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول، وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة، إما أن يستمر عناده، أو يرجى منه أن يترك العناد، أو يترك العناد ويستسلم، وقد بين اللَّه تعالى في هذه الآيات أحوالهم، وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال.
أما قوله تعالى : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الممتحنة : ٤] فهو إشارة إلى الحالة الأولى، ثم قوله : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة : ٧] إشارة إلى الحالة الثانية، ثم قوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إشارة إلى الحالة الثالثة، ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق، لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن، وبالكلام إلا بالذي هو أليق.
واعلم أنه تعالى سماهن مؤمنات لصدور ما يقتضي الإيمان وهو كلمة الشهادة، منهن، ولم يظهر منهن ما


الصفحة التالية
Icon