مفاتيح الغيب، ج ٢٩، ص : ٥٣٢
اعلم أن قوله تعالى : يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب قوله : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف : ١١] لما أنه في معنى الأمر، كما مر فكأنه قال : آمنوا باللَّه وجاهدوا في سبيل اللَّه يغفر لكم، وقيل جوابه : ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف : ١١] وجزم : يَغْفِرْ لَكُمْ لما أنه ترجمة : ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ومحله جزم، كقوله تعالى : لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون : ١٠] لأن محل فَأَصَّدَّقَ جزم على قوله : لَوْلا أَخَّرْتَنِي وقيل : جزم يَغْفِرْ لَكُمْ بهل، لأنه في معنى الأمر، وقوله تعالى : وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي / مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إلى آخر الآية، من جملة ما قدم بيانه في التوراة، ولا يبعد أن يقال : إن اللَّه تعالى رغبهم في هذه الآية إلى مفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد، وهو قوله : يَغْفِرْ لَكُمْ وقوله تعالى : ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني ذلك الجزاء الدائم هو الفوز العظيم، وقد مر، وقوله تعالى : وَأُخْرى تُحِبُّونَها أي تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل، قال الفراء : وخصلة أخرى تحبونها في الدنيا مع ثواب الآخرة، وقوله تعالى : نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ هو مفسر للأخرى، لأنه يحسن أن يكون : نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ مفسرا للتجارة إذ النصر لا يكون تجارة لنا بل هو ريح للتجارة، وقوله تعالى : وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل وهو فتح مكة، وقال الحسن : هو فتح فارس والروم، وفي تُحِبُّونَها شيء من التوبيخ على محبة العاجل، ثم في الآية مباحث :
الأول : قوله تعالى : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على تُؤْمِنُونَ [الصف : ١١] لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم اللَّه وينصركم، وبشر يا رسول اللَّه المؤمنين بذلك. ويقال أيضا : بم نصب من قرأ :
نصرا من اللَّه وفتحا قريبا [الصف : ١١]، فيقال : على الاختصاص، أو على تنصرون نصرا، ويفتح لكم فتحا، أو على يغفر لكم، ويدخلكم ويؤتكم خيرا، ويرى نصرا وفتحا، هكذا ذكر في «الكشاف».
[سورة الصف (٦١) : آية ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
ثم قال تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ.
قوله : كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أمر بإدامة النصرة والثبات عليه، أي. ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة، ويدل عليه قراءة ابن مسعود : كونوا أنتم أنصار اللَّه فأخير عنهم بذلك، أي أنصار دين اللَّه وقوله : كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ أي انصروا دين اللَّه مثل نصرة الحواريين لما قال لهم : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قال مقاتل، يعني من يمنعني من اللَّه، وقال عطاء : من ينصر دين اللَّه، ومنهم من قال : أمر اللَّه المؤمنين أن ينصروا محمدا صلى اللَّه عليه وسلم كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام، وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصا بهذه الأمة، والحواريون أصفياؤه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا، وحواري الرجل صفيه وخلصاؤه من الحور، وهو البياض الخالص، وقيل : كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وأما الأنصار فعن قتادة :
أن الأنصار كلهم من قريش : أبو بكر، وعمر، وعثمان : وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة بن الجراح،


الصفحة التالية
Icon