مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٣٨
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢)
الأمي منسوب إلى أمة العرب، لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم، ولا يقرءون كتابا ولا يكتبون. وقال ابن عباس : يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم، وقيل : الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه وقد مر بيانه، وقرئ الأمين بحذف ياء النسب، كما قال تعالى : رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون : ٣٢] يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم نسبه من نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال تعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة : ١٢٨] قال أهل المعاني : وكان هو صلى اللّه عليه وسلم أيضا أميا مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقة.
وقوله تعالى : يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي بيناته التي تبين رسالته وتظهر نبوته، ولا يبعد أن تكون الآيات هي الآيات التي تظهر منها الأحكام الشرعية، والتي يتميز بها الحق من الباطل وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهر هم من خبث الشرك، وخبث ما عداه من الأقوال والأفعال، وعند البعض يُزَكِّيهِمْ أي يصلحهم، يعني يدعوهم إلى ابتاع ما يصيرون به أزكياء أتقياء وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ والكتاب : ما يتلى من الآيات، والحكمة : هي الفرائض، وقيل : الْحِكْمَةَ السنة، لأنه كان يتلو عليهم آياته ويعلمهم سننه، وقيل : الْكِتابَ الآيات نصا، والحكمة ما أودع فيها من المعاني، ولا يبعد أن يقال : الكتاب آيات القرآن والحكمة وجه التمسك بها، وقوله تعالى :
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لأنهم كانوا عبدة الأصنام وكانوا في ضلال مبين وهو الشرك، فدعاهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى التوحيد والإعراض عما كانوا فيه، وفي هذه الآية مباحث :
أحدها : احتجاج أهل الكتاب بها قالوا قوله : بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يدل على أنه عليه السلام كان رسولا إلى الأميين وهم العرب خاصة، غير أنه ضعيف فإنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى إلى قوله تعالى : وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت : ٤٨] أنه لا يفهم منه أنه / يخطه بشماله، ولأنه لو كان رسولا إلى العرب خاصة كان قوله تعالى : كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبإ : ٢٨] لا يناسب ذلك، ولا مجال لهذا لما اتفقوا على ذلك، وهو صدق الرسالة المخصوصة، فيكون قوله تعالى : كَافَّةً لِلنَّاسِ دليلا على أنه عليه الصلاة والسلام كان رسولا إلى الكل.
ثم قال تعالى :
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٣ إلى ٤]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
وَآخَرِينَ عطف على الأميين. يعني بعث في آخرين منهم، قال المفسرون : هم الأعاجم يعنون بهم غير العرب أي طائفة كانت قاله ابن عباس وجماعة، وقال مقاتل : يعني التابعين من هذه الأمة الذين لم يلحقوا بأوائلهم، وفي الجملة معنى جميع الأقوال فيه كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة فالمراد


الصفحة التالية
Icon