مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٤٠
الآية، وقوله تعالى : لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما بيناه، فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتبا، وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع مما يحمله، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم، ثم ذم المثل، والمراد منه ذمهم فقال : بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس القوم مثلا الذين كذبوا، كما قال : ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف : ١٧٧] وموضع الذين رفع، ويجوز أن يكون جرا، وبالجملة لما بلغ كذبهم مبلغا وهم أنهم كذبوا على اللَّه تعالى كان في غاية الشر والفساد، فلهذا قال : بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ والمراد بالآيات هاهنا الآيات الدالة على صحة نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وهو قول ابن عباس ومقاتل، وقيل : الآيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم، وهذا أشبه هنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال عطاء : يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وهاهنا مباحث :
البحث الأول : ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات؟ نقول : لوجوه منها : أنه تعالى خلق الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً والزينة في الخيل أكثر وأظهر، بالنسبة / إلى الركوب، وحمل الشيء عليه، وفي البغال دون، وفي الحمار دون البغال، فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال، وغيرهما من الحيوانات، ومنها : أن هذا التمثل لإظهار الجهل والبلادة، وذلك في الحمار أظهر، ومنها : أن في الحمار من الذل والحقارة مالا يكون في الغير، والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولى، ومنها أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم، لكونه ذلولا، سلس القياد، لين الانقياد، يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة. وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره ومنها : أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام، وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى.
الثاني : يَحْمِلُ ما محله؟ نقول : النصب على الحال، أو الجر على الوصف كما قال في «الكشاف» إذ الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني [فمررت ثمة قلت لا يعنيني ]
الثالث : قال تعالى : بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ كيف وصف المثل بهذا الوصف؟ نقول : الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم، فكأنه قال : بئس القوم قوما مثلهم هكذا.
ثم إنه تعالى أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى :
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٦ إلى ٧]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)
هذه الآية من جملة ما مر بيانه، وقرئ : فتمنوا الموت بكسر الواو، وهادُوا أي تهودوا، وكانوا يقولون نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، فلو كان قولكم حقا وأنتم على ثقة فتمنوا على اللَّه أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى


الصفحة التالية
Icon