مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٦٩
البحث الأول : لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب وخطاب الوصف، وهو النبي ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم فكيف هو؟ نقول : الظاهر أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن كما ينبغي.
البحث الثاني : تحريم ما أحل اللّه تعالى غير ممكن، لما أن الإحلال ترجيح جانب الحل والتحريم ترجيح جانب الحرمة، ولا مجال للاجتماع بين الترجيحين فكيف يقال : لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ؟ نقول : المراد من هذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراما بعد ما أحل اللّه تعالى فالنبي صلى اللّه عليه وسلم امتنع عن الانتفاع معها مع اعتقاده بكونه حلالا ومن اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله اللّه تعالى بعينه فقد كفر فكيف يضاف إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم مثل هذا.
البحث الثالث : إذا قيل : ما حكم تحريم الحلال؟ نقول : اختلفت الأئمة فيه فأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين، وإن نوى ثلاثا فكما نوى، فإن قال : نويت الكذب دين فيما بنيه وبين ربه ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا (في الكفارة) «١» في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، وأما اختلاف الصحابة فيه فكما هو في «الكشاف»، فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك. ثم قال تعالى :
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٢ إلى ٣]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ. قال مقاتل : قد بين اللّه، كما في قوله تعالى : سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور : ١] وقال الباقون : قد أوجب، قال صاحب «النظم» : إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كما في قوله تعالى : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ [الأحزاب : ٥٠] وإذا وصل باللام احتمل الوجهين، وقوله تعالى :
تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي تحليلها بالكفارة وتحلة على وزن تفعلة وأصله تحللة وتحلة القسم على وجهين أحدهما :
تحليلة بالكفارة كالذي في هذه الآية وثانيهما : أن يستعمل بمعنى الشيء القليل، وهذا هو الأكثر كما
روي في الحديث :«لن يلج النار إلا تحلة القسم»
يعني زمانا يسيرا، وقرئ (كفارة أيمانكم)، ونقل جماعة من المفسرين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حلف أن لا يطأ جاريته فذكر اللّه له ما أوجب من كفارة اليمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الحرام يمين، يعني إذا قال : أنت علي حرام ولم ينو طلاقا ولا ظهارا كان هذا اللفظ موجبا لكفارة يمين وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، أي وليكم وناصركم وهو العليم بخلقه الحكيم فيما فرض من حكمه، وقوله تعالى : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه واستكتمها ذلك وقيل لما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين تحريم الأمة على نفسه والبشارة بأن