مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٥٨٣
هاهنا احتمالين أحدهما : أن يكون الحسير مفعولا من حسر العين بعد المرئي، قال رؤبة :
يحسر طرف عيناه فضا
الثاني : قول الفراء : أن يكون فاعلا من الحسور الذي هو الإعياء، والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاده فإنه لا يجد عيبا ولا فطورا، بل البصر يرجع خاسئا من الكلال والإعياء، وهاهنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين الجواب : التثنية للتكرار بكثرة كقولهم : لبيك وسعديك يريد إجابات متوالية.
السؤال الثاني : فما معنى ثُمَّ ارْجِعِ الجواب : أمره برجع البصر ثم أمره بأن لا يقنع بالرجعة الأولى، بل أن يتوقف بعدها ويجم بصره ثم يعيده ويعاوده إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من فطور.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٥]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)
اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادرا عالما، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص، وموضع معين، وسير معين، تدل على أن صانعها قادر ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا، وسببا لانتفاعهم بها، تدل على أن صانعها عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات : ٧] وهاهنا مسائل.
المسألة الأولى : السَّماءَ الدُّنْيا السماء القربى، وذلك لأنها أقرب السموات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس، والمصابيح السرج سميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فقيل :
ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة، أما قوله تعالى :
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فاعلم أن الرجوم جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به، وذكروا في معرض هذه الآية وجهين : الوجه الأول أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها، فإن قيل : جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوما للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض، قلنا : ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها، وتلك الشعل هي الشهب، وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار / باقية الوجه الثاني : في تفسير كون الكواكب رجوما للشياطين أنا جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين.
المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا، وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح.
واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق


الصفحة التالية
Icon