مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٠١
أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير، ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل؟ قال قوم معناه : إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجرا عظيما دائما، وقال آخرون : المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات، في دعاء الخلق إلى اللَّه، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم، فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة العالية عند اللَّه.
الصفة الثالثة : قوله تعالى : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، ومن كان موصوفا بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميد كاملة لا جرم وصفها اللَّه بأنها عظيمة ولهذا قال : قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص : ٨٦] أي لست متكلفا فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطبع، وقال : آخرون :
إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام : ٩٠] وهذا الهدى الذي أمر اللَّه تعالى محمدا بالاقتداء به ليس هو معرفة اللَّه لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمر عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم، فكأن كل واحد منهم كان مختصا بنوع واحد، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله، لا جرم وصف اللَّه خلقه بأنه عظيم، وفيه دقيقة / أخرى وهي قوله : لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكلمة على للاستعلاء، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
المسألة الثانية : الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة. واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب، والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل، وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهرا له وحصل له حق آخر. وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه : وإنك لعلى دين عظيم، وروي أن اللَّه تعالى قال له :«لم أخلق دينا أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك»
يعني الإسلام، واعلم ان هذا القول ضعيف، وذلك لأن الإنسان له قوتان، قوة نظيرة وقوة عملية، والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية، والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر، ويمكن أيضا أن يجاب عن هذ السؤال من وجهين : الوجه الأول : أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني : أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلا، فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة، كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة، فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق.


الصفحة التالية
Icon