مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٥١
اعلم أن نوحا عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح : ٤] فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال : وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء :
أولها : قوله : جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة.
وثانيها : قوله : وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي تغطوا بها، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه، ولا أن يروا وجهه. وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى.
وثالثها : قوله : وَأَصَرُّوا والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق.
ورابعها : قوله : وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي عظيما بالغا إلى النهاية القصوى. ثم قال تعالى :
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٨ إلى ٩]
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة، فبدأ بالمناصحة في السر، فعاملوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار، وكلمة ثُمَّ دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان، أو بحسب الرتبة، لأن الجهار أغلظ / من الإسرار، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده، فإن قيل : بم انتصب جِهاراً؟ قلنا : فيه وجوه أحدها : أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها : أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها : أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا، أي مجاهرا به ورابعها : أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا.
[سورة نوح (٧١) : آية ١٠]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠)
قال مقاتل : إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس اللّه عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فرجعوا فيه إلى نوح، فقال نوح : استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه.
واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه أحدها : أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم : ٩٠، ٩١] فلما كان الكفر سببا لخراب العالم، وجب أن يكون الإيمان سببا لعمارة العالم وثانيها : الآيات منها هذه الآية ومنها قوله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ [الأعراف : ٩٦] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ [المائدة : ٦٦] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن : ١٦] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ


الصفحة التالية
Icon