مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٥٩
المسألة الثالثة : تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله : أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً وذلك من وجهين الأول : أن الفاء في قوله : فَأُدْخِلُوا ناراً تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني : أنه قال : فَأُدْخِلُوا على سبيل الإخبار عن الماضي.
وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك، قال مقاتل والكلبي : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة نارا ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله : وَنادى أَصْحابُ النَّارِ [الأعراف : ٥٠] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف : ٤٤] واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل. فإن قيل : إنما تركنا هذا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا نارا؟
والجواب : هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجودا من أول عمره، مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائما في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير / المتبدل، فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن، فلم لا يجوز أن يقال : إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن اللّه تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب.
ثم قال تعالى : فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب اللّه لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب اللّه عنهم، وهو كقوله : أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء : ٤٣] واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير اللّه تعالى.
[سورة نوح (٧١) : آية ٢٦]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦)
قال المبرد : دَيَّاراً لا تستعمل إلا في النفي العام، يقال : ما بالدار ديار ولا تستعمل في جانب الإثبات، قال أهل العربية : هو فيعال من الدور، وأصله ديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، قال الفراء والزجاج : وقال ابن قتيبة : ما بها ديار أي نازل دار. ثم قال تعالى :
[سورة نوح (٧١) : آية ٢٧]
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)
فإن قيل : كيف عرف نوح عليه السلام ذلك؟ قلنا : للنص والاستقراء، أما النص فقوله تعالى : أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود : ٣٥] وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول : احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقوله : وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً فيه وجهان : أحدهما :
أنهم يكونون في علمك كذلك والثاني : أنهم سيصيرون كذلك.
[سورة نوح (٧١) : آية ٢٨]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
واعلم أنه عليه السلام لما دعا على الكفار قال بعده : رَبِّ اغْفِرْ لِي أي فيما صدر عني من ترك


الصفحة التالية
Icon