مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٦٦
المسألة الرابعة : الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم : الوحي الوحي والقراءة المشهورة أُوحِيَ بالألف، وفي رواية يونس / وهارون، عن أبي عمرو وحي بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال : وحي إليه وأوحى إليه وقرئ أحي بالهمز من غير واو، وأصله وحي، فقلبت الواو همزة كما يقال : أعد وأزن وإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات : ١١].
وقوله تعالى : أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمعوا على أن قوله : أَنَّهُ اسْتَمَعَ بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل أُوحِيَ فهو كقوله :
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ [الأنعام : ١٩] وأجمعوا على كسر إنا في قوله : إِنَّا سَمِعْنا لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم هاهنا قراءتان إحداهما : أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر، وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله : وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن : ١٨] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ [الجن : ١٩]، وثانيهما : فتح الكل والتقدير : فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي، فإن قيل : هاهنا إشكال من وجهين أحدهما : أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال : وآمنا بأنه كان يقول سفيهنا على اللّه شططا والثاني : وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال : آمنا به وزيد، بل يقال : آمنا به وبزيد والجواب : عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله : آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان.
المسألة الثانية : نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة
روي أن ذلك النفر كانوا يهودا،
وذكر الحسن أن فيهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين، ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء :
النوع الأول : مما حكوه قوله تعالى : فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله : فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف :
٢٩]، قُرْآناً عَجَباً أي خارجا عن حد أشكاله ونظائره، و(عجبا) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى الصواب، وقيل : إلى التوحيد فَآمَنَّا بِهِ أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين.
النوع الثاني : مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد فقالوا :
[سورة الجن (٧٢) : آية ٣]
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الجد قولان : الأول : الجد في اللغة العظمة يقال : جد فلان أي عظم / ومنه
الحديث :«كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا»
أي جد قدره وعظم، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص.
القول الثاني : الجد الغنى ومنه
الحديث :«لا ينفع ذا الجد منك الجد»
قال أبو عبيدة : أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وكذلك
الحديث الآخر :«قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون»


الصفحة التالية
Icon