مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٧٦
عليه السلام :«بلغوا عني، بلغوا عني»
فلم قال هاهنا : بَلاغاً مِنَ اللَّهِ؟ قلنا :(من) ليست (بصفة للتبليغ) «١» إنما هي بمنزلة (من) في قوله : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ [التوبة : ١] بمعنى بلاغا كائنا من اللّه. أما قوله تعالى : وَرِسالاتِهِ فهو عطف على بَلاغاً كأنه قال : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، والمعنى إلا أن أبلغ عن اللّه فأقول :
قال اللّه كذا ناسبا القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.
قوله تعالى : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله : وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة : ٩٥] وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة : ١٢٦] فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ [الجن : ١٣] على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب «الكشاف» وقرئ : فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال : ٤١] أي فحكمه أن للّه خمسه.
ثم قال تعالى : خالِدِينَ فِيها أَبَداً حملا على معنى الجمع في (من) وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار، قالوا : وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها، قالوا : وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله : أَبَداً فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل، أما هاهنا [فقد] جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحا في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب : أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات، ونزيد هاهنا وجوها أحدها : أن تخصيص / العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن اللّه تعالى، ثم قال : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني جبريل : فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي من يعص اللّه في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم، وإذا كان ما ذكرنا محتملا سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني : وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكما لا تعلق له بها، فيكون هذا الوعيد وعيدا على ترك التبليغ من اللّه، ولا شك أن ترك التبليغ من اللّه أعظم الذنوب، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب، لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث : وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد
الأبد، وذكرها هاهنا مقيدة بقيد الأبد، فلا بد في هذا التخصيص من سبب، ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا الذنب، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله : فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً معناه أن هذه الحالة له لا لغيره، وهذا كقوله : لَكُمْ دِينَكُمْ

(١) في الكشاف (بصلة للتبليغ) ٤ / ١٧٢ ط. دار الفكر. [.....]


الصفحة التالية
Icon