مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٧٩
يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحدا، ثم قال بعده : لكن من ارتضى من رسول اللّه فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع / القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته.
واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد اللّه من هذه الآية أن لا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل، والذي يدل عليه وجوه أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم، فثبت أن اللّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها :
أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير، وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل، ويكون صادقا فيه وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء، ثم إنها وقعت على وفق كلامها.
قال مصنف الكتاب ختم اللّه له بالحسنى : وأنا قد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة، حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخبارا على سبيل التفصيل، وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها، وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها، وقال : لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا.
ورابعها : أنا نشاهد [ذلك ] في أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصا بالأولياء بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضا في أكثر تلك الأخبار، ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور، وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه، واللّه أعلم.
أما قوله تعالى : فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فالمعنى أنه يسلك من بين يدي من ارتضى للرسالة، وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي حفظة من الملائكة يحفظونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم، حتى يبلغ ما أوحى به إليه، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونه ولا يضرونه وعن الضحاك «ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين (الذين) «١» يتشبهون بصورة الملك».
[سورة الجن (٧٢) : آية ٢٨]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
قوله تعالى : لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فيه مسائل :
المسألة الأولى : وحّد الرسول في قوله : إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الجن : ٢٧] ثم جمع في قوله : أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ونظيره ما تقدم من قوله : فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ [الجن : ٢٣].

(١) في الكشاف (أن) ٤ / ١٧٣ ط. دار الفكر.


الصفحة التالية
Icon