مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٨٥
الليل، القول الثاني : هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل، وذكروا على هذا القول وجوها أحدها : قالوا :
ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها : ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل، وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية / والخواطر النورانية، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس، وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات، وتارة أنوار ومكاشفات، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه، أو تخيلات أحوال عجيبة، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناسا كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل.
أما قوله تعالى : هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي مواطأة وملاءمة وموافقة، وهي مصدر يقال : واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطأة ومنه لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة : ٣٧] أي ليوافقوا، فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص، وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان، وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى ما يراد من الخشوع والإخلاص، وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار، وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق.
المسألة الثانية : قرئ : أَشَدُّ وَطْئاً بالفتح والكسر وفيه وجهان الأول : قال الفراء : أشد ثبات قدم، لأن النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني : أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار، وهو من قولك : اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه، وفي الحديث :«اللهم أشدد وطأتك على مضر»
فأعلم اللّه نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها، ونظيره
قوله عليه الصلاة والسلام :«أفضل العبادات أحمزها»
أي أشقها. واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، قال : لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية، فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل، وأيضا الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم.
قوله تعالى : وَأَقْوَمُ قِيلًا فيه مسألتان :
المسألة الأولى : أَقْوَمُ قِيلًا قال ابن عباس : أحسن لفظا، قال ابن قتيبة : لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول، ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل.
المسألة الثانية : قرأ أنس (و أصوب قيلا)، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي : وَأَقْوَمُ قِيلًا فقال أنس :


الصفحة التالية
Icon