مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٨٩
المعنى أنك لما اتخذتني وكيلا فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع اللّه، وكيفية معاملتهم مع الخلق، والأول أهم من الثاني، فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني، وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس أو مجانبا عنهم فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم، فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان، فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير، فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل، فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين، والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة، ونظيره فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء : ٦٣] وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف : ١٩٩] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النجم : ٢٩] قال المفسرون : هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال، وقال آخرون : بل ذلك هو الأخذ بإذن اللّه فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله وهذا أصح.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١١]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادرا على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له :
ذرني أنا وذاك أي لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر وهو كقوله : فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ [القلم : ٤٤] وقوله : أُولِي النَّعْمَةِ بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة يقال : أنعم بك ونعمك عينا أي أسرّ عينك وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا فيه وجهان أحدهما : المراد من القليل الحياة الدنيا والثاني : المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر، فإن اللّه أهلكهم في ذلك اليوم.
ثم ذكر كيفية عذابهم عند اللّه فقال :
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٢ إلى ١٣]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣)
أي إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا، وذكر أمورا أربعة أولها : قوله : أَنْكالًا واحدها نكل ونكل، قال الواحدي : النكل القيد، وقال صاحب الكشاف : النكل القيد الثقيل وثانيها : قوله : وَجَحِيماً ولا حاجة به إلى التفسير وثالثها : قوله : وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ الغصة ما يغص به الإنسان، وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى : لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية : ٦] قالوا : إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج ورابعها : قوله : وَعَذاباً أَلِيماً والمراد منه سائر أنواع العذاب، واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية، أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية، فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة، فبعد البدن يشتد الحنين، مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء، ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية، فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها، يوجب


الصفحة التالية
Icon