مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٦٩٥
دفعا للحرج، وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها. وهاهنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال : سقط عن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قيام الليل وصارت تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
[في قوله تعالى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلى قوله وَآتُوا الزَّكاةَ] ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ.
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل : لم نسخ اللّه ذلك؟ فقال : لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل اللّه، أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، وهذا السبب ما كان موجودا في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم، كما قال تعالى : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [المزمل : ٧] فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخا في حقه. ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود :«أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه من الشهداء» ثم أعاد مرة أخرى قوله : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وذلك للتأكيد ثم قال : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة وقيل : زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا.
قوله تعالى : وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه يريد سائر الصدقات وثانيها : يريد أداء الزكاة على أحسن وجه، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعا للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه اللّه والصرف إلى المستحق وثالثها : يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
[قوله تعالى وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال : وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : تجدوه عند اللّه خيرا وأعظم أجرا من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت، وقال الزجاج : وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيرا لكم من متاع الدنيا، والقول ما قاله ابن عباس.
المسألة الثانية : معنى الآية : وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند اللّه خيرا وأعظم أجرا إلا أنه قال : هو خيرا للتأكيد والمبالغة، وقرأ أبو السمال هو خير وأعظم أجرا بالرفع على الابتداء والخبر، ثم قال :
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَحِيمٌ بهم، وفي الغفور قولان : أحدهما : أنه غفور لجميع الذنوب، وهو قول مقاتل والثاني : أنه غفور لمن يصر على الذنب، احتج مقاتل على قوله بوجهين الأول : أن قوله : غَفُورٌ رَحِيمٌ يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني : أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقا للمدح، واللّه سبحانه وتعالى أعلم، والحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon