مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٤١
المسألة الثالثة : في الآية قولان : أحدهما : أن فيه تقديما وتأخيرا، والمعنى فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه والقول الثاني : أنه لا حاجة إلى هذا التغيير، والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث، بل للابتلاء والامتحان.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، فقال : فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام : لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مريم : ٤٢] وأيضا قد يراد بالسميع المطيع، كقوله سمعا وطاعة، وبالبصير العالم يقال : فلان بصير في هذا الأمر، ومنهم من قال : بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان واللّه تعالى خصهما بالذكر، لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٣]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
قوله تعالى : إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أخبر اللّه تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات، ينتزع منها عقائد صادقة أولية، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء، وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية، فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل، ولذلك قيل : من فقد حسا فقد علما، ومن قال : المراد من كونه سميعا بصيرا هو العقل، قال : إنه لما بين في الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين في هذه الآية، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو والذي لا يجوز ما هو.
المسألة الثانية : السبيل هو الذي يسلك من الطريق، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل / هاهنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، ويكون معنى هَدَيْناهُ أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له، كقوله تعالى :
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : ١٠] ويكون السبيل اسما للجنس، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى : إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر : ٢] ويجوز أن يكون المراد بالسبيل هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق، فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة، ألا ترى إلى قوله تعالى : إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب : ٦٧] وإنما أضلوهم سبيل الهدى، ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله : هَدَيْناهُ أي أرشدناه، وإذا أرشد لسبيل الحق، فقد نبه على تجنب ما سواها، فكان اللفظ دليلا على الطريقين من هذا الوجه.
المسألة الثالثة : المراد من هداية السبيل خلق الدلائل، وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، كأنه تعالى قال : خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه ليهلك من هلك عن بينة وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى أنه ذكر السبيل، فقال : هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي أريناه ذلك.