مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٥٦
التكرار وثانيها : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه، فقال : وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها : ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون، / فيطهر ذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب، وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقا يفوح منه ريح كريح المسك، وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها : وهو أن الروح من عالم الملائكة، والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة، وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوى البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة، فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض، وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس، فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى اللّه تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات، ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع، ومن نور إلى نور، ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة، بل فنيت، لأن نور ما سوى اللّه تعالى يضمحل في مقابلة نور اللّه وكبريائه وعظمته، وذلك هو آخر سير الصديقين، ومنتهى درجاتهم في الارتقاء والكمال، فلهذا السبب ختم اللّه تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله : وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء، قال تعالى :
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٢]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
اعلم أن في الآية وجهين الأول : قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها، ومشاهدتهم لنعيمها : إن هذا كان لكم جزاء قد أعده اللّه تعالى لكم إلى هذا الوقت، فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم، كما قال حاكيا عن الملائكة : إنهم يقولون لأهل الجنة : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد : ٢٤] وقال : كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة : ٢٤] والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم، فإنه يقال للمعاقب : هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وألم قلبه، ويقال للمثاب :
هذا بطاعتك، فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره، والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمرا، أي ويقال لهم :
هذا الكلام الوجه الثاني : أن يكون ذلك إخبارا من اللّه تعالى لعباده في الدنيا، فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة، أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي، لكم خلقتها، ولأجلكم أعددتها، وبقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : إذا كان فعل العبد خلقا للّه، فكيف يعقل أن يكون فعل اللّه جزاء على فعل اللّه؟ الجواب :
الجزء هو الكافي، وذلك لا ينافي كونه فعلا للّه تعالى.
السؤال الثاني : كون سعي العبد مشكورا للّه يقتضي كون اللّه شاكرا له والجواب : كون اللّه تعالى شاكرا للعبد محال إلا على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه الأول : قال القاضي : إن الثواب مقابل لعلمهم، كما أن


الصفحة التالية
Icon