مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٦١
الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل / إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين اللّه وإيجاده، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد للّه ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض، وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم، وعلى أن يسلب النعمة عنهم، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا للّه، وأن يتركوا هذا التمرد، وحاصل الكلام كأنه قيل لهم : هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان باللّه والانقياد له، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر باللّه، والإعراض عن حكمه، لكنتم قد تمردتم، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب وطريقة لطيفة، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة : الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضا ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب.
المسألة الثانية : وَإِذا... بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم، وهو كقوله : عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
[الواقعة : ٦١] والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام، فإنا قادرون على إفنائهم، وعلى إيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً [النساء : ١٣٣] وقال : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم :
١٩، ٢٠] ثم قيل : بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي في الخلقة، وإن كانوا أضدادهم في العمل، وقيل : أمثالهم في الكفر.
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : في قوله : وَإِذا شِئْنا إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد : ٣٨] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النساء : ١٣٣] واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن، وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط، إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك، أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع، تقول :
آتيك إذا طلعت الشمس، فههنا لما كان اللّه تعالى عالما بأنه سيجيء وقت يبدل اللّه فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة، لا جرم حسن استعمال حرف إذا.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٩ إلى ٣٠]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠)
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده : إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ والمعنى أن هذه السورة بما فيها من / الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلا. واتخاذ السبيل إلى اللّه عبارة عن التقرب إليه، واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر، فالقدري يتمسك بقوله تعالى : فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ويقول :
إنه صريح مذهبي ونظيره : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف : ٢٩] والجبري يقول : متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر، وذلك لأن قوله : فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يقتضي


الصفحة التالية
Icon