مفاتيح الغيب، ج ٣٠، ص : ٧٧٢
ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمة اللّه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكلما كان كذلك كان العقاب أعظم، فلهذا قال عقيب ذكر هذا الإنعام : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
الوجه الثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه قادرا على الابتداء، وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وأما التفسير فهو أن قوله : أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي من النطفة، كقوله : ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة : ٨] فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ وهو الرحم، لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد، ثم قال : إِلى / قَدَرٍ مَعْلُومٍ والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة، وذلك الوقت معلوم للّه تعالى لا لغيره كقوله : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى قوله : وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان : ٣٤] فَقَدَرْنا قرأ نافع وعبد اللّه بن عامر بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديرا فنعم المقدرون له نحن، ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى : مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر المنة والنعمة، ومن طعن في هذه القراءة قال : لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال : فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين، قال تعالى : فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق : ١٧] وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان : الأول : أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني : أنه يقال : قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته، قال : الفراء العرب تقول : قدر عليه الموت، وقدر عليه الموت، وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد، قال تعالى : فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر : ١٦].
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٥ إلى ٢٨]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، ثم قال في آخر الآية : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية، لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق، فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكنا.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أشياء أولها : الأرض، وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض، ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال : كفت الشيء أي ضممته، ويقال : جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئا مما يجعل فيه، ويقال : للقدر : كفت. قال صاحب الكشاف : هو اسم ما يكفت، كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع، ويقال : هذا الباب جماع الأبواب، وتقول : شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شدادا، وبه انتصب أحياء وأمواتا كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتا، أو بفعل


الصفحة التالية
Icon