مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٢٨
والثالث : أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير.
المسألة السابعة :
روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول :«لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة»
وروى :«أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ :(سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى، ألا بلى ألا بلى) فقالت عائشة : لا آب غائبكم، ولا زالت نساؤكم في لزبة» واللّه أعلم.
أما قوله تعالى : الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح، فكأن سائلا قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة، فما الدليل على وجود الرب؟ فقال : الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم السلام والدليل عليه ما حكى اللّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام، أنه قال : الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء : ٧٨] وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهارون عليهما السلام : فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى [طه :
٤٩]؟ قال موسى عليه السلام : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه : ٥٠] وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق : ١، ٢] هذا إشارة إلى الخلق، ثم قال : اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق : ٣، ٤] وهذا إشارة إلى الهداية، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة، فقال : الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيرا لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر، ومشاهدة الإنسان لها، واطلاعه عليها أتم، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة، ثم هاهنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله : خَلَقَ فَسَوَّى يحتمل أن يريد به الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها أحدها : أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة، على ما قال : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين : ٤] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه، فقال : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، وثانيها : أن كل حيوان / فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط، وغير مستعد لسائر الأعمال، أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا وثالثها : أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات، وأما من حمله على جميع الحيوانات. قال : المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وأما من حمله على جميع المخلوقات، قال : المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفا بوصف الأحكام والإتقان، مبرأ عن الفسخ والاضطراب.
المسألة الثانية : قرأ الجمهور : قَدَّرَ مشددة وقرأ الكسائي على التخفيف، أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم، وأما التخفيف فقال القفال : معناه ملك فهدى وتأويله : أنه خلق فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد، وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه، ومنهم من قال : هما لغتان بمعنى واحد، وعليه قوله تعالى : فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات : ٢٣] بالتشديد والتخفيف.


الصفحة التالية
Icon