مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٣٧
وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه أحدها : أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية، والدنيا ليست كذلك، فالآخرة خير من الدنيا وثانيها : أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام، والآخرة ليست كذلك وثالثها : أن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني. ثم قال :
[سورة الأعلى (٨٧) : آية ١٨]
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
واختلفوا في المشار إليه بلفظ (هذا) منهم من قال : جميع السورة، وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر باللّه، والوعد على طاعة اللّه تعالى.
ومنهم من قال : بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى : ١٤] إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي. أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة، وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله : وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى : ١٥] فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة اللّه تعالى، وأما قوله :
فَصَلَّى [الأعلى : ١٥] فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة اللّه تعالى.
وأما قوله : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الأعلى : ١٦] فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا.
وأما قوله : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى : ١٧] فهو إشارة إلى الترغيب في الآخرة وفي ثواب اللّه تعالى، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع، فلهذا السبب قال : إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى وهذا الوجه كما تأكد بالعقل فالخبر يدل عليه،
روى عن أبي ذر أنه قال : قلت هل في الدنيا مما في صحف إبراهيم وموسى؟ فقال : اقرأ يا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى : ١٤]
وقال آخرون : إن قوله (هذا) إشارة إلى قوله : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية، وأما قوله : لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى فهو نظير لقوله : وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء : ١٩٦] وقوله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى : ١٣]. وقوله تعالى :
[سورة الأعلى (٨٧) : آية ١٩]
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
فيه قولان : أحدهما : أنه بيان لقوله : لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى : ١٨] والثاني : أن المراد أنه مذكور في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى،
روي عن أبي ذر أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كم أنزل اللّه من كتاب؟ فقال : مائة وأربعة كتب، على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان،
وقيل : إن في صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه، واللّه سبحانه وتعالى أعلم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


الصفحة التالية
Icon