مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٥٤
ابن الزبير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أي لم يخلق اللّه مثلها الثالث : أن الكناية عائدة إلى العماد أي لم يحلق مثل تلك الأساطين في البلاد، وعلى هذا فالعماد جمع عمد، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنه تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل، مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا خائفين من مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم كان أولى. أما قوله تعالى : وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ فقال الليث : الجواب قطعك الشيء كما يجاب الجيب يقال جاب يجوب جوبا. وزاد الفراء يجيب جيبا ويقال : جبت البلاد جوبا أي جلت فيها وقطعتها، قال ابن عباس : كانوا يجوبون البلاد فيجعلون منها بيوتا وأحواضا وما أرادوا من الأبنية، كما قال : وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الأعراف : ٧٤] قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام / ثمود، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، وقوله : بِالْوادِ قال مقاتل : بوادي القرى.
وأما قوله تعالى : وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ فالاستقصاء فيه مذكور في سورة ص، ونقول : الآن فيه وجوه أحدها : أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا وثانيها : أنه كان يعذب الناس ويشدهم بها إلى أن يموتوا،
روى عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء وقالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ففرج اللّه عن بيتها في الجنة فرأته
وثالثها : ذي الأوتاد، أي ذي الملك والرجال، كما قال الشاعر :
في ظل ملك راسخ الأوتاد ورابعها : روى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن تلك الأوتاد كانت ملاعب يلعبون تحتها لأجله، واعلم أن الكلام محتمل لكل ذلك، فبين اللّه تعالى لرسوله أن كل ذلك مما تعظم به الشدة والقول والكثرة لم يمنع من ورود هلاك عظيم بهم، ولذلك قال تعالى : الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يحتمل أنه يرجع الضمير إلى فرعون خاصة لأنه يليه، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم، وهذا هو الأقرب.
المسألة الثانية : أحسن الوجوه في إعرابه أن يكون في محل النصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعا على [الإخبار، أي ] هم الذين طغوا أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون.
المسألة الثالثة : طَغَوْا فِي الْبِلادِ أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء اللّه والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى : فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر اللّه وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد ثم قال تعالى : فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ واعلم أنه يقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. قال القاضي : وشبهه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : إن عند اللّه أسواطا كثيرة فأخذهم بسوط منها، فإن قيل : أليس أن قوله تعالى : وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا «١» ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر : ٤٥] يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ قلنا :

(١) في المطبوعة (بظلمهم).


الصفحة التالية
Icon