مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٧٧
يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض، فضلا عن التوغل في بحار أسرار اللّه سبحانه. أما قوله تعالى :
[سورة الشمس (٩١) : آية ٨]
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)
فالمعنى المحصل فيه وجهان الأول : أن إلهام الفجور والتقوى، إفهامها وإعقالهما، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما، وهو كقوله : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : ١٠] وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة، قالوا : ويدل عليه قوله بعد ذلك : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس : ٩، ١٠] وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين والوجه الثاني : أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره، قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد :
جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور، واختار الزجاج والواحدي ذلك، قال الواحدي :
التعليم والتعريف والتبيين، غير والإلهام غير، فإن الإلهام هو أن يوقع اللّه في قلب العبد شيئا، وإذا أوقع في قلبه شيئا فقد ألزمه إياه. وأصل معنى الإلهام من قولهم : لهم الشيء، والتهمه إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه اللّه تعالى في قلب العبد، لأنه كالإبلاغ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد، وهو صريح في أن اللّه تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره، وأما التمسك بقوله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها اللّه تعالى وأصلحها وطهرها، والمعنى وفقها للطاعة، هذا آخر كلام الواحدي وهو تام. وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبرا للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة، فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره، بقي شيء / واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية، فنبه سبحانه بقوله : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على أن ذلك أيضا منه وبه وبقضائه وقدره، وحينئذ ثبت أن كل ما سوى اللّه فهو واقع بقضائه وقدره. وداخل تحت إيجاده وتصرفه.
ثم الذي يدل عقلا على أن المراد من قوله : فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مرارا أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات، فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل، وفيه نفي الصانع، وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل، وإن كان عن اللّه فهو المقصود، وأيضا فليجرب العاقل نفسه فإنه ربما كان الإنسان غافلا عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة، ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه، ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل، وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله : فَأَلْهَمَها ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة. أما قوله تعالى :
[سورة الشمس (٩١) : آية ٩]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩)
فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء، وفي الآية قولان أحدهما : أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية والثاني : قد أفلح من زكاها اللّه، وقبل القاضي هذا التأويل، وقال المراد منه أن اللّه حكم بتزكيتها وسماها بذلك، كما يقال في العرف : إن فلانا يزكي فلانا، ثم