مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٨
جزاء ذا وفاق وقرأ أبو حيوة وِفاقاً فعال من الوفق، فإن قيل كيف يكون هذا العذاب البالغ في الشدة الغير المتناهي بحسب المدة وِفاقاً للإتيان بالكفر لحظة واحدة، وأيضا فعلى قول أهل السنة إذا كان الكفر واقعا بخلق اللّه وإيجاده فكيف يكون هذا وفاقا له؟ وأما على مذهب المعتزلة فكان علم اللّه بعدم إيمانهم حاصلا ووجود إيمانهم مناف بالذات لذلك العلم فمع قيام أحد المتنافيين كان التكليف بإدخال المنافي الثاني في الوجود ممتنعا لذاته وعينه، ويكون تكليفا بالجمع بين المتنافيين، فكيف يكون مثل هذا العذاب الشديد الدائم وفاقا لمثل هذا الجرم؟ قلنا يفعل اللّه ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنه تعالى لما بين على الإجمال أن ذلك الجزاء كان على وفق جرمهم شرح أنواع جرائمهم، وهي بعد ذلك نوعان :
أولهما : قوله تعالى :
[سورة النبإ (٧٨) : آية ٢٧]
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧)
وفيه سؤالان :
الأول : وهو أن الحساب شيء شاق على الإنسان، والشيء الشاق لا يقال فيه إنه يرجى بل يجب أن يقال :
إنهم كانوا لا يخشون حسابا والجواب من وجوه : أحدها : قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله لا يرجون معناه لا يخافون، ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى : ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح : ١٣] وثانيها : أن المؤمن لا بد وأن يرجو رحمة اللّه لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، فقوله :
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين وثالثها : أن الرجاء هاهنا بمعنى التوقع لأن الراجي للشيء متوقع له إلا أن اشرف أقسام التوقع هو الرجاء فسمى الجنس باسم أشرف أنواعه ورابعها : أن في هذه الآية تنبيها على أن الحساب مع اللّه جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف، وذلك لأن للعبد حقا على اللّه تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب وللّه تعالى حق على العبد في جانب العقاب، والكريم قد يسقط حق نفسه، ولا يسقط ما كان حقا لغيره عليه، فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في / الحساب، فلهذا السبب ذكر الرجاء، ولم يذكر الخوف.
السؤال الثاني : أن الكفار كانوا قد أتوا بأنواع من القبائح والكبائر، فما السبب في أن خص اللّه تعالى هذا النوع من الكفر بالذكر في أول الأمر؟ الجواب : لأن رغبة الإنسان في فعل الخيرات، وفي ترك المحظورات، إنما تكون بسبب أن ينتفع به في الآخرة. فمن أنكر الآخرة، لم يقدم على شيء من المستحسنات، ولم يحجم عن شيء من المنكرات، فقوله : إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً تنبيه على أنهم فعلوا كل شر وتركوا كل خير.
والنوع الثاني : من قبائح أفعالهم قوله :
[سورة النبإ (٧٨) : آية ٢٨]
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨)
اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ولذلك قال إبراهيم : رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء : ٨٣] هَبْ لِي


الصفحة التالية
Icon