مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٨٥
المسألة الخامسة : في دخول السين في قوله : فَسَنُيَسِّرُهُ وجوه أحدها : أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من اللّه تعالى قطع ويقين، كما في قوله : اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إلى قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : ٢١] وثانيها : أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصيا، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعا، فهذا السبب كان التغيير فيه محالا وثالثها : أن الثواب لما كان أكثره واقعا في الآخرة، وكان ذلك مما لم يأت وقته، ولا يقف أحد على وقته إلا اللّه، لا جرم دخله تراخ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر، واللّه أعلم. أما قوله تعالى :
[سورة الليل (٩٢) : آية ١١]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
فاعلم أن (ما) هنا يحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، ويحتمل أن يكون نفيا. وأما تَرَدَّى ففيه وجهان الأول : أن يكون ذلك مأخوذا من قولك : تردى من الجبل : قال اللّه تعالى : وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ [المائدة : ٣] فيكون المعنى : تردى في الحفرة إذا قبر، أو تردى في قعر جهنم، وتقدير الآية : إنا إذا يسرناه للعسرى، وهي النار تردى في جهنم، فما ذا يغني عنه ماله الذي بخل به وتركه لوارثه، ولم يصحبه منه إلى آخرته، التي هي موضع فقره وحاجته شيء، كما قال : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام : ٩٤] وقال : وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مريم : ٨٠] أخبر أن الذي ينتفع الإنسان به هو ما يقدمه الإنسان من أعمال البر وإعطاء الأموال في حقوقها، دون المال الذي يخلفه على ورثته الثاني : أن تردى تفعل من الردى وهو الهلاك يريد الموت. أما قوله تعالى :
[سورة الليل (٩٢) : آية ١٢]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢)
فاعلم أنه تعالى لما عرفهم أن سعيهم شتى في العواقب وبين ما للمحسن من اليسرى وللمسيء من العسرى، أخبرهم أنه قد قضى ما عليه من البيان والدلالة والترغيب والترهيب والإرشاد والهداية فقال : إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد وشرح ما يكون المتعبد به مطيعا مما يكون به عاصيا، إذ كنا إنما خلقناهم لننفعهم ونرحمهم ونعرضهم للنعيم المقيم، فقد فعلنا ما كان / فعله واجبا علينا في الحكمة، والمعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة مذهبهم في مسائل إحداها : أنه تعالى أباح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في وسعه وطاقته، فثبت أنه تعالى لا يكلف بما لا يطاق وثانيها : أن كلمة على للوجوب، فتدل على أنه قد يجب للعبد على اللّه شيء وثالثها : أنه لو لم يكن العبد مستقلا بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة، وأجوبة أصحابنا عن مثل هذه الوجوه مشهورة، وذكر الواحدي وجها آخر نقله عن الفراء فقال المعنى : إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال كما قال : سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : ٨١] وهي تقي الحر والبرد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال : يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي فذكر معنى الإضلال، قالت المعتزلة : هذا التأويل ساقط لقوله تعالى : وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [النحل : ٩] فبين أن قصد السبيل على اللّه، وأما جور السبيل فبين أنه ليس على اللّه ولا منه، واعلم أن الاستقصاء قد سبق في تلك الآية. أما قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon