مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٨٧
وأما قوله ثانيا : إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضا، لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب اللّه بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب، ولعله يعذبه بطريق آخر، فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار.
وأما قوله ثالثا : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم، والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به؟ والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار، فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل.
وأما قوله رابعا : المراد منه نار مخصوصة، وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضا، لأن قوله : ناراً تَلَظَّى يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران، وأن يكون صفة لنار مخصوصة، لكنه تعالى وصف كل نار جهنم بهذا الوصف في آية أخرى، فقال : كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى. [المعارج : ١٥].
وأما قوله : المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل، فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي، فإن قيل : فما الجواب عنه على قولكم، فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق؟ الجواب :
من وجهين : الأول : ما ذكره الواحدي وهو أن معنى : لا يَصْلاها لا يلزمها في حقيقة اللغة، يقال : صلى الكافر النار إذا لزمها مقاسيا شدتها وحرها، وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر، أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها الثاني : أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق، واللّه أعلم. قوله تعالى :
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٧ إلى ١٩]
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)
معنى سيجنبها أي سيبعدها ويجعل منها على جانب يقال : جنبته الشيء أي بعدته وجنبته عنه، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه. واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، ويقولون : إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى : وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [المائدة : ٥٥] فقوله : الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إشارة إلى ما في الآية من قوله : يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت : أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها : أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق، فإذا كان كذلك، وجب أن يكون المراد هو أبو بكر، فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود، إنما قلنا : إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات : ١٣] والأكرم هو الأفضل، فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل، فإن قيل : الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى، وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم، قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد، ووصف كونه


الصفحة التالية
Icon