مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ١٩٣
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل اللّه ما لقيت
فأبطأ عنه الوحي،
وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار
وهاهنا سؤالان.
السؤال الأول : الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى : قلنا أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركا للأفضل والأولى، وصاحبه لا يكون ممقوتا ولا مبغضا، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل :«ما جئتني حتى اشتقت إليك، فقال جبريل : كنت إليك أشوق ولكني عبدا مأمورا» وتلا : وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم : ٦٤].
السؤال الثاني : كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده : إني لا أبغضك تشريفا له؟
الجواب : أن ذلك لا يحسن ابتداء، لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه، ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له : إني لا أبغضك ولا أدعك، وسوف ترى منزلتك عندي.
المسألة الثالثة : هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللّه، إذ لو كان من عنده لما امتنع.
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٤]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوها أحدها : أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة، بل أقصى ما في الباب، أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة، وذلك أمارة الموت فكأنه يقال : انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت، لكن الموت خير لك. فإن ما لك عند اللّه في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا وثانيها : لما نزل : ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى : ٣] حصل له بهذا تشريف عظيم، فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له : وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن ما لك عند اللّه في الآخرة خير وأعظم وثالثها : ما يخطر / ببالي، وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فيقول : لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصبا وجلالا، وهاهنا سؤالان :
السؤال الأول : بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيرا من الأولى؟ الجواب : لوجوه أحدها : كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا على خير لأنك تفعل فيها ما تريد، ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد وثانيها : الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى : وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب :
٦] وهو أب لهم، وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة، ثم سمى الولد قرة أعين، حيث حكى عنهم :
هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان : ٧٤] وثالثها : الآخرة خير لك لأنك اشتريتها، أما هذه ليست لك، فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيرا لك، لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكا لك، فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل ورابعها : الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم، وأجعلك شهيدا على الأنبياء، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال : وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح : ٢٨، ٢٩] وخامسها : أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة، ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة.
السؤال الثاني : لم قال : وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ ولم يقل خير لكم؟ الجواب : لأنه كان في جماعته من


الصفحة التالية
Icon