مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ٢٠
المسألة الأولى : قال الزجاج : كُلَّ منصوب بفعل مضمر يفسره أَحْصَيْناهُ والمعنى : وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال، وكل بالرفع على الابتداء.
المسألة الثانية : قوله : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي علمنا كل شيء كما هو علما لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى : أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة : ٦] واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل : وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريرا لما ادعاه من قوله : جَزاءً وِفاقاً [النبأ : ٢٦] كأنه تعالى يقول : أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقا لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالما بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافرا قطعا.
المسألة الثالثة : قوله : أَحْصَيْناهُ كِتاباً فيه وجهان : أحدهما : تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا
قال عليه السلام «قيدوا العلم بالكتابة»
فكأنه تعالى قال : وكل شيء أحصيناه إحصاء مساويا في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله كتابا تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم اللّه بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني : أن يكون قوله كتابا حالا في معنى مكتوبا والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، كقوله : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أو في صحف الحفظة.
ثم قال تعالى :
[سورة النبإ (٧٨) : آية ٣٠]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠)
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولا، ثم ادعى كونه جَزاءً وِفاقاً [النبأ : ٢٦] ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة، وظهر صحة ما ادعاه أولا من أن ذلك العقاب كان جَزاءً وِفاقاً لا جرم أعاد ذكر العقاب، وقوله : فَذُوقُوا والفاء للجزاء، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله : جَزاءً وِفاقاً.
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه : أحدها : قوله : فَلَنْ نَزِيدَكُمْ وكلمة لن للتأكيد في النفي وثانيها : أنه في قوله : كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً [النبأ : ٢٧] ذكرهم بالمغايبة وفي قوله : فَذُوقُوا ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب وثالثها : أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم، ثم قال : فَذُوقُوا فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب
قال عليه الصلاة والسلام :«هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار، كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه»
بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار : وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران : ٧٧] فهنا لما قال لهم : فَذُوقُوا فقد كلمهم؟ الجواب : قال أكثر المفسرين : تقدير الآية فيقال لهم : فذوقوا،


الصفحة التالية
Icon