مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ٢٩
فذاك هو المراد من قوله : وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً وأما الذين حملوه على سائر طوائف الملائكة فقالوا : إن الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، فجعل نزولهم من السماء كالسباحة، والعرب تقول للفرس الجواد، إنه السابح، وأما قوله : فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فمنهم من فسره بملائكة قبض الأرواح يسبقون بأرواح الكفار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، ومنهم من فسره بسائر طوائف الملائكة، ثم ذكروا في هذا السبق وجوها أحدها :
قال مجاهد وأبو روق إن الملائكة سبقت ابن آدم بالإيمان والطاعة، ولا شك أن المسابقة في الخيرات درجة عظيمة قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة : ١٠] وثانيها : قال الفراء والزجاج : إن الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء لأن الشياطين كانت تسترق السمع وثالثها : ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى وصفهم فقال : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء : ٢٧] يعني قبل الإذن لا يتحركون ولا ينطقون تعظيما لجلال اللّه تعالى وخوفا من هيبته، وهاهنا وصفهم بالسبق يعني إذا جاءهم الأمر، فإنهم يتسارعون إلى امتثاله ويتبادرون إلى إظهار طاعته، فهذا هو المراد من قوله : فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، وأما قوله : فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فأجمعوا على أنهم هم الملائكة : قال مقاتل يعني جبريل وميكائيل، وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام يدبرون أمر اللّه تعالى في أهل الأرض، وهم المقسمات أمرا، أما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وقوم منهم موكلون بحفظ بني آدم، وقوم آخرون بكتابة أعمالهم وقوم آخرون بالخسف والمسخ والرياح والسحاب والأمطار، بقي على الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم قال : فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، ولم يقل : أمورا فإنهم يدبرون أمورا كثيرة لا أمرا واحدا؟
والجواب : أن المراد به الجنس، وإذا كان كذلك قام مقام الجمع.
السؤال الثاني : قال تعالى : إن الأمر كله للّه فكيف أثبت لهم هاهنا تدبير الأمر. والجواب : لما كان ذلك الإتيان به كان الأمر كأنه «١» له، فهذا تلخيص ما قاله المفسرون في هذا الباب، وعندي فيه وجه آخر : وهو أن الملائكة لها صفات سلبية وصفات إضافية، أما الصفات السلبية فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة، والموت والهرم والسقم والتركيب من الأعضاء والأخلاط والأركان، بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال، فقوله : وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه وعلى هذا التفسير : النَّازِعاتِ هي ذوات النزع كاللابن والتامر، وأما قوله : النَّاشِطاتِ نَشْطاً إشارة إلى أن خروجها عن هذه الأحوال ليس على سبيل التكليف والمشقة كما في حق البشر، بل هم بمقتضى ماهياتهم خرجوا عن هذه الأحوال وتنزهوا عن هذه الصفات، فهاتان الكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية، وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان أحدهما : شرح قوتهم العاقلة أي كيف حالهم في معرفة ملك اللّه وملكوته والاطلاع على نور جلاله فوصفهم في هذا المقام بوصفين / أحدهما : قوله : وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلال اللّه ثم لا منتهى لسباحتهم، لأنه لا منتهى لعظمة اللّه وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه، فهم أبدا في تلك السباحة وثانيهما : قوله : فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً وهو إشارة إلى مراتب الملائكة في تلك السباحة فإنه كما أن مراتب معارف البهائم بالنسبة إلى مراتب معارف البشر ناقصة، ومراتب

(١) في الأصل الذي أراجع عليه (كان الأمر كله له) و(قولهم) ولعل ما ذكرته هو الصواب في الموضعين.


الصفحة التالية
Icon