مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ٥٨
المسألة الثانية : ذكروا في تفسيره أقوالا أحدها : قال بعضهم : المراد تسهيل خروجه من بطن أمه، قالوا :
إنه كان رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام إلا اللّه، ومما يؤكد هذا التأويل أن خروجه حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وثانيها :
قال أبو مسلم : المراد من هذه الآية، هو المراد من قوله : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : ١٠] فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين أي جعلناه متمكنا من سلوك سبيل الخير والشر، والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب وثالثها : أن هذا مخصوص بأمر الدين، لأن لفظ السبيل مشعر بأن المقصود أحوال الدنيا [لا] أمور تحصل في الآخرة. وأما المرتبة الثانية :
وهي المرتبة الأخيرة، فهي قوله تعالى :
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢١ إلى ٢٢]
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضا على ثلاث مراتب، الإماتة، والإقبار، والإنشار، أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب، ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة، وأما الإقبار فقال الفراء :
جعله اللّه مقبورا ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع، لأن القبر مما أكرم به المسلم «١» قال : ولم يقل فقبره، لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو اللّه تعالى، يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبر الميت، إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر، والعرب تقول : بترت ذنب البعير، واللّه أبتره وعضبت قرن الثور، واللّه أعضبه، وطردت فلانا عني، واللّه أطرده. أي صيره طريدا، وقوله تعالى : ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ المراد منه الإحياء [و] البعث، وإنما قال : إذا شاء إشعارا بأن وقته غير معلوم لنا، فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة اللّه تعالى، وأما سائر الأحوال / المذكورة قبل ذلك فإنه يعلم أوقاتها من بعض الوجوه، إذا الموت وإن لم يعلم الإنسان وقته ففي الجملة يعلم أنه لا يتجاوز فيه إلا حدا معلوما.
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٣]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
وأعلم أن قوله : كَلَّا ردع للإنسان عن تكبره وترفعه، أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر، وفي قوله : لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ وجوه أحدها : قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضا عليه أبدا، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن تقصير ألبتة، وهذا التفسير عندي فيه نظر، لأن قوله : لَمَّا يَقْضِ الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق، وهو الإنسان في قوله : قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس : ١٧] وليس المراد من الإنسان هاهنا جميع الناس بل الإنسان الكافر فقوله : لَمَّا يَقْضِ كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها : أن يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يقض ما أمر به من التأمل في دلائل اللّه، والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها : قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : كلا لم يقض اللّه لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر،

(١) الأولى أن يقال :(ربما أكرم به الإنسان) لأن الإقبار ليس خاصا بالمسلم بل هو عام يشمل المسلم والكافر. لا سيما والإنسان المتحدث عنه في صدر الآية المراد به الكافر فقط.


الصفحة التالية
Icon